أخبار المسجد
recent

إلى خطيب قريتنا.. كيف تستفيد من صلاة الجمعة وخطبتها..


بسم الله الرحمن الرحيم

إلى خطيب قريتنا..

كيف تستفيد من صلاة الجمعة وخطبتها..

الحمدُ لله ربِّ العالَمين... وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله أما بعد..

إنَّ عَظمة هذا الدِّين تتجلَّى في أمور كثيرة، وتبدو واضحة في شتى مجالات الحياة، وعيبٌ قَبْل أن يكون حراماً أن يُنحَّى هذا الدِّين العظيم عن المجال السياسي والاقتصادي والتعليمي والتربوي، وتزداد الحُرمة عندما يجعل بعضُهم عقباتٍ أمام أنصار المشروع الإسلامي تحت حُجج واهية، وأعذار هاوية، لا تَمتّ إلى وعيٍ وإدراك، بل سببها إمَّا الجهل بهذا الدِّين، أو الحقد عليه وبُغْض أنصاره، وتتجلَّى عظمة إسلامنا في قَول كلمة الحقِّ، والصَّدْعِ بها، لتصحيح المسار، ليكون حُسنُ المصير.

ومِن هنا.. ذَكر القرآن الكريم هذا في عدةِ آيات، بل إنَّ الأنبياء جميعاً والمُرسلين وأتباعهم جاؤوا بكلمة الحقِّ التي يضيق بها أهل الباطل، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}([1])، وقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}([2])، وفي سورة غافر قال مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}([3]).. ولا أدري.. لو لَمْ يَسْعَ هذا الرجل الصالح ويقول ما قال دفاعاً عن موسى u.. أيكون له ذِكْر ومَقام؟!، وفي هذا رسالة لمَنْ زَعم الحياد كاذباً، والمُحايد -في الحقيقة- هو مُغفَّلٌ نافع، إذ بِتَرْكِه الدفاعَ عن العُصبة المؤمنة ومنهجها خَدم الطرفَ الآخر بِغَفْلته، وأهلُ الباطل يَعشقون المُحايدين من هذا النوع، فهم مِنهم وإن لم يُعلنوا، وهم يخدمونهم وإنْ لَمْ يَذكروا.

الكلمة وتأثيرها:

ولقد كانت الكلمة في صَدر الدعوة هي التي تُفْزِع المُشركِين وعُصبة الكفر في مَكةَ البَلدِ الحرام، كما أنَّها كانت في الوقت ذاته بَلسماً شافياً للمُعذَّبين في الأرض، نتيجةً لاستمساكهم بهذا المنهج، حيث ضَربوا أمثلة في الصبر على البلاء، مما أغاظ فريق الطغيان، وجماعة البهتان.

وعَجِب أولئك من الصمود الأسطوري للعصبة المؤمنة وهي تُعذَّبُ أشكالاً وألواناً، من جبابرة الأرض في هذا الزمان، وهذا دليلٌ على أهمية الكلمة، وأنها تفعل الأعاجيب، إذا صَاحَبَها الصدقُ والوفاء، وأدركَ صاحبُها سرَّ وجوده في الحياة, ولأهمية الكلمة جَعل الإسلامُ مَنْ يَجهر بها في وجهِ سُلطان جائرٍ مع حمزة t في المنزلة إنْ قَتَله الطاغيةُ، وكثيرون هُم الذين دَفعوا حياتهم ثمناً لكلماتِهم، سواء كانت هذه الكلمات مُؤلَّفاً مفيداً، أو خُطبة مؤثرة، يهتزّ من أجْلها المنبر، وتتناغم مع نبراتها جنبات المسجد، وتتفاعل معها حناجر الأمة، التي تسمع، حيث ترتسم علامات الرضا والقبول على الوجوه، لأنها تحدثت عما يجول في خواطرهم، وعمَّا يُعانونه من ظُلم واستبداد.

وسواء كانت هذه الكلمة مَقالاً يَنسف منهج الطاغية، ويَقصف منهج المُستبدّ، أو قصيدة شعرية تُدمِّر أبياتُها عَرش طاووس المَلِك، أو كانت تلك الكلمة رَسْماً ساخراً (كاريكاتورياً) تحته تعليق يُلهب بِسِياطه ظهورَ الجلاَّدِين، ويُلجم أفواه الكاذبين، أو كانت تلك الكلمة قِطعةً من النثر تمَّ اختيار ألفاظها بعناية، فكانت كالسيف القاطع، أو الرمح النافذ، أو السَّهم الصائب، الذي يُصيب كَبِد الحقيقة وقلْبَ الظالم.

ومِن هنا.. انطلق العلماءُ والفقهاء مُشرِّقين ومُغرِّبين، يَركبون وسائل بدائية، كالجمل والخيل، وأحياناً مَشياً على الأقدام، وفي قلوبهم هِمم عالية، أسرع من الصاروخ إذا انطلقَ فَسَبق.. يُبلِّغون هذه الدعوة، والعجيب.. أنَّهم كانوا في ذاك الزمن أسرع منَّا نحن هذه الأيام، رغم تَطوُّرِ وسائل المواصلات والاتصالات، وليس ذلك إلا لأنَّهم عَلِموا وأدرَكوا أنَّ صلاحَ الأمة في عُلوِّ الهِمَّة.

وإنَّ الإنسان ليقف مَشدوهاً وهو يرى كيف كُتبت ملايين المراجع، وكيف انتشرت مِهنة الوراقين النسَّاخين، ولكنَّ الذهول يزول، والدهشة تذهب، إذا عَلِمنا أنَّ أجدادنا الأوائل أدرَكوا سرَّ وجودهم، وعَلِموا أهمية تبليغ الدعوة، وأنَّها من أعظم الأمانات التي ينبغي أن تُؤدَّى..

وإنْ كانت الدول تُكَوِّن أجهزةً لحماية مُمتلكات الناس من اللصوص والسارقين، فإنَّ العلماء، والذين يَصدعون بكلمةِ الحقِّ، هُم الذين يَحفظون أعظم الممتلكات من أنْ تسرقها شياطين الأرض، ويسلبها مُفسدو الدنيا وطُغاة العالَم، هذه الممتلكات هي العقائد في القلوب.. هي الإيمان والاستقامة والاعتدال..

(إنَّ سرقة كنوز الدنيا أهون مِن سرقة حُكمٍ واحدٍ من دِين الله.. والأجدر أنْ تَكون المُعتقلات.. أولاً.. لِمَنْ خَرَّبوا دِين الله، وتلصَّصوا على سَناه. وأين لنا بِحُكَّامٍ يصونون الإسلام قبل صَوْنِ التِّيجان، ويُقيمون الحدود مع إقامة السدود، ويُؤدِّبون مَنْ عَادَى مَنهج ربِّ العرش، قبل تفكيرهم في تأديب الهتَّافين ضدهم، وهُم على العرش..

لا أجد أوطأ من جدار الإسلام..

الطبيبُ هو الذي يُعالج المريض..

والمهندس هو الذي يُشيد البناء..

والضابط هو الذي يُخطِّط للمعارك..

والخيَّاط هو الذي يُفصِّل الملابس..

أمَّا الإسلام فهو نَهبٌ للعِيال، ومأكلةٌ ليس لها حراس..([4])

ألا يقوم هؤلاء العلماء بمهمةٍ تعجز عنها دُول، وأجهزة أمنية؟! قلتُ: بِقَدْرِ حُبِّنا لِديننا نجعل له حُرَّاساً يحمونه ليلَ نهار، من ثقافة الضرار، ومن الفكر الهدَّام، الذي يُراد له أن ينتشر بين شبابنا، ليصبح الشباب كمَّاً مُهمَلاً يسير على هامش الحياة..

ولأهمية الكلمة.. لَمْ يَجعل مولانا الاستماع إليها نافلة؛ بل واجباً، خاصة في صلاة الجمعة، وحذَّر من اللغو واللهو، ومِنْ مَسِّ الحَصى، والعبثِ بفراش المسجد حتى لا ينشغل المستمع عن الخطبة التي يلقيها الإمام في الاجتماع الأسبوعي، وهو المؤتمر الذي يجمع المسلمين في مساجد جامعة، لخَصال الخيرِ جَامعة.



قوة الخطبة وجزالة أسلوبها وعمق موضوعاتها:

ولا تنال المساجد مكانتَها ومنزلتَها إلاَّ بإمامٍ ناجح، وخطيبٍ مِصْقَع يُحسن توظيف الكلمات، واختيار العبارات، فيجعلها قنابلَ تَدكّ عُروشَ الباطل، أو قذائف تُوجَّه إلى صدور الطغيان، ومِن هنا..

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تقوِّم اعوجاجاً، ولا تُعدِّل انحرافاً ولا تُطهِّر مُلوَّثاً، ولا تَغْسل انتهازياً.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تُشبع جائعاً، ولا تَسقي ظَمآناً، ولا تَكسو عارياً، ولا تَحْمل حافياً، ولا تُنصف مظلوماً، ولا تَقهر ظالماً، ولا تُعِين ضعيفاً، ولا تُساعد مُحتاجاً، ولا تُقوِّي على الباطل احتجاجاً.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تَحفظ الرعية، ولا تَقْسم بالسويَّة، ولا تَعْدل في القضية، ولا تَخرج في السرية.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تتمسك بالثوابت، ولا تدعو إلى الصبر والصمود، ولا تؤكد أهمية عودة اللاجئين والرجوع.. فقد أصبحنا نحن الفلسطينيين لاجئين في أوطاننا، ولاجئين في أرض سوانا. وهذه القضية من أهم القضايا التي ينبغي أن يتمسك بها الفلسطينيون حتى لا نبقى مُتسوِّلين لقمةَ الخبز التي غُمست بالذلة والمهانة، إضافة إلى العَرَق والدم، إمعاناً في إذلال هذا الشعب الذي كان يحيا في رياض خضراء، وجنات فيحاء، يشرب الماء عذباً زلالاً، ويستنشق النسيم عليلاً، ويأكل من كدِّ يمينه، وعرقِ جبينه .

جُعـتُ في يومٍ فأرسلـتُ يَدي لرغيفِ البؤس مِن خبزِ الوكالة

ومضغـتُ العـارَ سُماً نَاقعـاً وشربـتُ الكأس ذُلاً للثمـالـة

سُلبتْ أرضي وعاشت طغمـةٌ في ربوعي تدَّعِي رُوح العدالة

إنَّمـا مـزَّقَنــا أعـداؤنـا حينَ بَدَّلنا الهُدى دربَ الضلالة

*****

نحن شعبٌ قد سُلبنـا الوطَنـا نحنُ في عُريٍ وآلامٍ وجُـوع

وطعـامُ الغَـوْثِ لا يُشْبِعُنـا نحنُ لا يُشْبِعنا غير الرُّجوع([5])



-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تُحْدِث زِلزالاً، ولا تُثير بُركاناً، ولا تَلتهب ناراً تحرق عروش الظالمِين.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تهدي ضالاً، ولا ترشد حيراناً، ولا تعيد غائباً ولا ترد شارداً.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تتحدَّث عن العقوق والحقوق، ولا تتحدث عن طاعة الوالِدَين واحترام العلماء.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تَذكر واجباتِ الحاكم تِجاه المحكومين، وتقول للحاكم أنت أجير للأمة، وطاعة الأمة لك بقدر طاعتك أنت لله وقُربك منه. فإنْ عصيتَ فلا طاعة لك (إنَّما الطاعة في المعروف).

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا ترتقي باللغة العربية، ولا تسمو بلغة الضاد، ولا تستخدم كلماتها في التعبير عن آلام الأمة وآمالها.. وقَاتَلَ اللهُ خُطْبةً تستخدم كلمات اللغة للنفاق، والتخدير، وقَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تكون كلماتها ناراً على الاحتلال، والانحلال والاختلال، فإنَّ كثيرين أساؤوا إلى لغة القرآن، فـ (انحطَّت اللغةُ العربية عندما قُيِّدَت الأقلام، وتحوَّلت إلى حصة إملاء، الحاكم يُملي، والكُتَّاب يكتبون، انحطت اللغة العربية عندما ارتجفت الكلماتُ من الرُّعب في الأقلام، وأصبحنا نتغزل بالحكام بعد أن كنا نَتعبّد الله، وانحطت اللغة العربية عندما أصبحت البلاغة هي إبلاغ الشعب بما يريد الحاكم، بعد أن كانت البلاغة هي إبلاغ الحاكم بما يريد الشعب)([6]).

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا ينتظرها المسلمون على شوق، ولا تكون أحب إليهم من الطعام الشهي، والماء البارد على كبد الظمآن.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تحفظ كرامة الأمة، ولا تحمي أقصاها، ولا تدعو للإفراج عن أسراها، ولا تجعل الأمة واحدةً من أدناها إلى أقصاها.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا يُحسن صاحبها اختيار الآيات، ولا انتقاء الأحاديث، حتى لا تُمزَّقَ الأمة، فتصبح في المحافل الدولية أحاديث..

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تضم شعراً مُؤثِّراً، وقصيدة تسحب الطاغية من على عرشه، ليدوسه المظلومون والمقهورون بأقدامهم.

عندي لشرِّ جناةِ الأرض محكمـةٌ شعري بها شرُّ قاضٍ في تَقاضيـه

أدعـو لهـا كل جبَّـار وأسحبُـه مِن عرشِه تحت عِبءٍ من مساويه

يحني لي الصنـمُ المعبود هامتـه إذا رفعـتُ لـه صوتي أُناديـه

أُذيقه الموتَ من شَعـرٍ أسجِّـره أشدَّ من مَوت عزريل قَوافيـه([7])

يَرى الذي قـد توقَّى حِلْمَ قَافيـةٍ مِنِّي، فيُمعن رُعبـاً في تَوقِّيه!([8])



-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تَكسر قَيداً ولا تُحطِّم غُلاً، ولا تُؤدِّب سجَّاناً ظالماً، وقاضياً جائراً.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً ليس فيها سياسة واعية، وتحليل راقٍ هادف، لأحداث ساخنة تمر بالأمة.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تقول للظالم أنتَ ظالم، لتجعله في زاوية، لعلَّه يرتدع ويحسّ بجرائمه ومخالفاته (إذا حُوصر بالنصح والإرشاد والبراهين على فساد سياسته ومنهجه).

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تكون كالنهر المتدفق الذي يعرف مَجراه، أو كالسيل المندفع الذي يَسحق الكاذِبين والظالِمين، ويَدفنهم بِوَحْله، خَشيةً على الناس مِن نتن ريحهم.

-قَاتَلَ اللهُ خُطْبةً لا تتوحدّ بها الكلمة، ولا يجتمع بها الصف، ولا تأتلف بها القلوب، ولا تُفرَّج بها الكروب، ولا تُغفر بها الذنوب، ولا يَعتصم مستمعوها بحبل الله جميعاً.



الصراحة والوضوح في الدعوة، لا يتناقض مع الحرص على الوحدة:

*وإنَّ الدعوة إلى الوحدة والألفة والاعتصام بِدِينِ الله ربِّ العالمين، لا يتناقض مع الحديث عن الكذب والبهتان، ولا يتناقض مع الحديث عن البخل والإمساك والإقتار، ولا يتناقض مع الحديث عن الظلم وخطورته، والعدل وأهميته، ولا يتناقض مع الحديث عن المغضوب عليهم والضالين، خاصة مَنْ يُحاربنا منهم، ويَعتدي على إسلامنا ودِيننا..

*إنَّ الحديث عن التمسك بالثوابت والوحدة، لا يتناقض مع الحديث عن تجار السموم ومروجي الفساد ومحاصري الشعب، ولصوص السيارات، والمعتدين على الأرض والعِرض، فإنَّ القرآن الكريم يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}([9])، وقال قبلها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}([10])..

*تحدَّث القرآن عن الوحدة وأكَّدها ودعا إليها، وحذَّر من الفتنة (التي يسيء كثيرون فهمها وظنوها حديثاً عن اتجاهاتهم وأحزابهم وهي في الحقيقة حديث عن إبعاد الناس عن دِينهم وفتنتهم عن إسلامهم، وهذا واضحٌ في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}([11])، أي فتنة المسلمين عن دينهم وإخراجُهم من مكة أشد من القتال في الشهر الحرام). لقد تحدَّث القرآن عن الوحدة، وتحدث عن المنافقين وهَم العدو اللدود للمسلمين المؤمنين، فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}([12])..

*تحدَّث القرآن عن الوحدة، وفي الوقت ذاته تحدَّث عن العدالة وجريمة محاربتها، وتحدث عن خطورة التمييز بين الناس حيث إنَّهم سواسية كأسنانِ المشط.

*لقد تحدَّث القرآن عن الوحدة بالطريقة التي تُؤدي إليها حقيقة، لا وحدة صُورية، وخَلْفها مَكْرٌ وخداع، وحياكة مؤامرات، فكثيرون يسعون إلى وحدة بعيدة عن الأسس، والثوابت القرآنية، فهم يتخبَّطُون في دياجير الضلالة والضياع، ولعلَّهم لا يُفيقون –إنْ بَقوا بعيدين عن هذا المنهج، وبهذه الصورة- لعلَّهم لا يُفيقون إلا ورؤوسهم في قَعرِ جهنم حيث العذاب الأليم..



قيمة الإمام وأهميته:

وحتى نُدرك قيمة الإمام، وأهمية الخطيب، نَرجع قليلاً إلى التاريخ الإسلامي المجيد الذي تجاهلناه، بل شوَّهْناه، ولَم نُحسن قراءته والاستفادة منه، فقد أراد كثيرون أن يجعلوا الإمام إمَّعةً، يتنفس برئة الحاكِم، يَخْطِب ودَّه، ويسعى إلى مرضاتِه على حساب دِينه، وإنَّ الأنظمة العلمانية هذه الأيام تخدع كثيراً من المُتديِّنين، وكثيراً من الطيبين، ذوي النيات الحسنة! فيفُصِّلُون الفتاوى للحاكم تفصيلاً دون أن ينظروا إلى واقع أُمتهم، بل دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الأدلة، بل ربما استعانوا بالأقوال الشاذة والغريبة، فترى بعضَهم يُحلّ الرِّبَا عاماً ثُمَّ يُحرِّمها عاماً.. وترى بعضَهم يتشدَّد في أمورٍ في فترة ما، ثم يلين.. لأنَّ السياسة تُريد ذلك، ولا أدري كيف يكون العالِم عَالِماً إذا لَمْ يَخْشَ الله، وكيف يكون العالِم عالِماً وهو لا يُوجِّه للحاكم نُصحاً وإرشاداً ولا يصدع بكلمة الحقِّ في وجهه، ويقول إنَّ ما تفعله حرام، أو مُخالِف للقانون، فهذا عطاء بن أبي رباح، يُكلِّم الوليدَ بن عبد الملك حين سأله أن يحدثه فيقول: (بَلَغَنا أنَّ في جهنمَ وادياً يُقال له هَبْهب، أعدَّه اللهُ لكلِّ إمامٍ جائرٍ في حُكمه، فصُعق الوليدُ مِن قَوله)([13])، وهذا ابن ذؤيب يُجيب أبا جعفر المنصور وقد سأَلَه رأيَه فِيه فيقول: (أشهدُ أنَّك أخذتَ هذا المالَ من غيرِ حقَّه، فجعلتَه في غيرِ أهلِه، وأشهدُ أن الظلمَ بِبَابِك فَاشِي)([14]) ..

وأمثال ما ذَكرنا كثير، وحتى تعلم دور الإمام والخطيب في التغيير والإصلاح، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، انظر ما هي الشروط التي كانت تؤهِّل الإمامَ للوظيفة.. في عهدِ السلطان سليمان القانوني.. أُعلن عن وظيفة إمام مسجد خالية.. أتدرون ماذا كانت الشروط المطلوبة في اختيار المرشح؟

كانت الشروط المطلوبة في المرشح كما يلي:

-أنْ يُجيد اللغةَ العربية، والتركية، والفارسية، واللاتينية.

-أنْ يكون دارساً وفاهماً للقرآن الكريم، والإنجيل، والتوراة.

-أنْ يكون عالِماً في الشريعة والفقه والسيرة النبوية، وتاريخ الإسلام.

-أنْ يكون عالِماً في الرياضة والطبيعة.

-أنْ يجيد رُكوب الخيل، والمبارزة بالسيف للجهاد.

-أنْ يكون حَسَن المَظْهر.

-أنْ يكون جَميل الصوت.

-قبل هذا وبعده، أن يكون قُدوة حسنة، وأُسوة صالحة.

هذه هي الشروط المطلوب توافُرُها في الداعية، كما جاء ذلك في الإعلان التركي قبل أكثر من أربعمائة سنة.([15])

فَهلْ أدركْنَا قيمةَ الداعية، ومَكانة الإمام؟ أم اعتقلناهم وسجنَّاهم، وسَخِرْنا منهم، واستهزأنا بهم؟ بل إنَّ الحُكام أغروا كثيرين منهم بالمال، وبِغلوِّ المرتبات، فسَكتوا والأمةُ تحترق، والفسادُ ينتشر، والظلم يَفشو، والقلوب تقسو، وإنَّ الدعاة إلى الله U كَنز لا يُقدَّر بِثَمنٍ يَجب أن يُوجِّهُوا الحُكَّامَ والمسؤولين الذي ينبغي لهم أن يتواضعوا أمام العُلماء، لأنَّ العُلماء يأخذون بأيدينا إلى الآخرة، ويَشفعون للمتعلِّمين المتواضعين.

قال اللورد البريطاني المسلم هيدلي: لو كان للإسلام دُعاة على مستوى الإسلام لَدَانَ مُعظم الناس في الغرب والشرق بالإسلام..([16]).

وإنَّنا -كَمُسلمِين –إنْ كُنَّا تأخَّرْنا في ميادين الاقتصاد والبحوث العلمية وتلك جريمة شرعية، ومخالفة ربَّانية أسبابها الجهلُ بعوامل الصعود، وسُنن الله في التغيير، وعِلَلها الحُكم المستبدّ الدكتاتوري الظالم الذي لا يُقدِّر العُلماء ولا البحوث العلمية، ممَّا أدَّى إلى هروب العقول، ونزيف الأدمغة، ورحَّبتْ دُول الغرب والشرق بالجَاليات العربية والإسلامية التي تَملك مالاً، وتَمْلك عَقلاً مُتفتحاً، وذِهناً مُتوقداً، وهِمَماً عَالية في البحوث العلمية فَشَارَكُوا في بناء دول الآخرين، ولو بَحثْنا عن الأسباب فهي عندنا، وفينا، (إنَّه الظلم والجهل).

لكن.. رغم كل هذا، ما زلنا نملك عقيدة لا تُدانيها عقائد الأرض كلُّها، وما زلنا نَملك شريعة لا تدانيها شرائع الأرض جميعُها، بل عندنا أصدق وثيقة سماوية ما زالت باقية حتى الآن.. إنَّها القرآن الكريم..

لقد وَقَف الأستاذ (تي.بي.أرفنج) الأستاذ في جامعة تنسي الأمريكية، وقفَ يُخاطب المسلمين في مدينة (جلاسجو) في بريطانيا منذ سنوات، فماذا قال البروفيسور أرفنج؟ لقد قال: إنَّكم –أيها المسلمون- لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علمياً، أو اقتصادياً أو عسكرياً.. في الوقت الحاضر على الأقل، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا هذه الدول تَجْثُو على رُكَبِها أمامكم بالإسلام!!

أفيقُوا مِن غَفْلتكم لِقَيمة هذا النور الذي تَحْمِلون.. والذي يتعطَّش إليه كلُّ الناس في مُختلف جنبات الأرض.. تعلَّموا الإسلام وطَبِّقُوه.. واحْمِلُوه لغيركم من البشرِ تتفتَّح أمامكم الدنيا..ويَدِين لكم كل ذي سلطان.. أعطوني أربعين شاباً مِمَّن يَفهمون هذا الدِّين فَهْماً عميقاً.. ويُطبِّقونه على حياتهم تطبيقاً عميقاً، ويُحسنون عَرْضَه على الناس بأسلوب العصر.. وأنا أَفتح بهم الأمريكتين..([17]).



منزلة الأئمة:

ولقد كانت للأئمة الكبار منزلة –وما زالت- عند مَنْ يُقدِّرُون العِلم ودَوره، والفقه وأثره، ولَنْ أَذْكُر أمثلةً من عصر الصحابة والتابعين، التي تُعدّ أزهى عصور الأمة المسلمة، لكنني أذكر أمثلةً من العصرِ الحديث لعلَّ كِبار الشيوخ يتعلَّمون، وبكلمة الحقِّ يَصدعون، ولعلَّهم يُدرِكُون أنَّ نَفَسَ ذاكَ الجِيل وروحه ما زالت تسري فِينا حتى هذه الأيام، ولن تَخلو الأرض من قَائمٍ لله بِحُجة..

أخبروني أيها العلماء.. أيها الناس.. كيف سَطَع نجم الشيخ عبد الحميد كشك، وكيف تلألأ كوكبُ الأستاذ سيد قطب، وكيف ظهَرَ البشير الإبراهيمي، وابن باديس، والمودودي، وغيرهم كثير؟ لقد سطعَ أولئك وتألَّقوا.. لا أقول بكثرة مؤلفاتهم، ولا بمناصب تولَّوْها، ولا بعمائم على رؤوسهم جعلوها، ولا بزيٍّ مُعين ارْتَدَوه، إنَّما سَطعَ نَجْمُهم، وقَوِي تأثيرُهم، واتَّسعتْ قاعدة تأييدهم، بكلمة الحقِّ التي صدعوا بها، مقروءة، ومسموعة.



مَا كلّ مَنْ لَبِسَ العمامةَ سَيِّـد مَا كُلُّ مَنْ لَبِـسَ القباءَ أَميـرُ

مَا كُلُّ ذِي لُبٍّ يُدير مَصَالِحا حتَّى يُهـذِّب بَيْتَـه ويُديـرُ

مَا كُلُّ ذِي حَسَبٍ شريفٌ إنما شَرَفُ الرِّجالِ يَسُوقه التدبيرُ

مَا كُلُّ أفرادِ البَرايـا واحـد ولكلِّ فَرْدٍ في الحَياةِ نَظِيـرُ



شيخ الأزهر في عصر ازدهاره:

(حين قامت الحربُ العالمية الثانية كان مَركز إنجلترا في بدايتها ضعيفاً حَرَجاً، إذ توالت انتصارات هتلر على نحوٍ يُؤذن بانهزامِ الحُلفاء، واضطرت إنجلترا أنْ تُذيع في الناسِ إنَّها تُحارب من أجْلِ الإنسانية، أمام دكتاتورية النازية، وطلب المستر (مايلز لامبنسون) (السفير البريطاني في ذلك الوقت) من الأستاذ محمد مصطفى المراغي، أن يذيع على العالم الإسلامي بَياناً يُعلن فيه أنَّ إنجلترا تُحارب في سبيل الديمقراطية، لِترعى حقوق العدالة والإخوة والمساواة، وتَعاظَم على الشيخ الأكبر أنْ يَجرؤ السفيرُ على طَلبه، فلَمْ يَشأْ أنْ يَغفل الطَلَب، كأنْ لَمْ يَكُن، ولكنَّه انتهز فرصةَ الاحتفال بموسمٍ ديني، فألقى أمام المَلك خُطبةً رنَّانة، تُوضِّح ما قَاسَتْه مصرُ والعالَم الإسلامي من أهوال هذه الحربِ المدمِّرة، حيث سقطت القنابل على الإسكندرية وبعضِ المدن المصرية، فأحدثت من الضرر النفسي ما فاق الضرر المادي.. ثُم هَتفَ صريحاً بأنَّ مصر تُكابد حرباً (لا ناقةَ لها فِيها ولا جَمل)، وأنَّ المُتحاربِين من المعسكرَين المُتنابِذَين لا يَمُتَّان إليها بسبب!!

وانتشرتْ خُطبة الإمام على الأثير، في شتَّى أنحاء العالم، ففزع السفير البريطاني (مايلز لا مبنسون) فزعاً شديداً، وهاتف رئيس الوزراء، (حسين سرّي) في منتصف الليل، يطلب منه إقالة المراغي، وفزع رئيس الوزراء تَبعاً لما شاهد، واتصل تليفونياً قبل الفجر ليحتجّ على الشيخ المراغي، ويُنذره بأنَّه لا بدَّ أن يُحيطه عِلماً بكلِّ ما يقول قبل أن يخطب به، وبعد أن فَرغ حسين سري رئيس الوزراء من كلامه قال له الشيخ: أتُريد أن أعرض عليكَ كلامي؟ مَنْ أنت؟ إنَّني أستطيع أن أُقيلك بخطبةٍ واحدة من فوق مِنبر الأزهر، أو منبر الحسين..([18]). وإنَّ الشيخ المراغي ذاته –رحمه الله- كان يُدرك قِيمة ما يَحمل من دِين، وقِيمة ما يحفظ من قرآن، ومِن هنا.. قَدَّر حملةَ الدِّين، وحَفظةَ القرآن، وأجلَّ عُلماءَ الأمة الذين يَحفظون عقيدتها ويَحمونها من الانحراف والاعوجاج، وكان سلوكه يثبت ذلك.. يقول الأستاذ الشيخ صالح شرف: كنتُ في زيارةٍ للشيخ الأكبر (المراغي) في منزله بحلوان، وبينما نحن جلوس إذ حضرَ جماعة من الباشاوات، فلما جلسوا.. نادَى واحداً منهم قائلاً: يا فلان –دون ذِكْر لَقبه- قُمْ وأغلق النافذة التي وراءَ ظَهرك! يقول الشيخ صالح: لقد كان مِنا نحن العلماء مَن هو أقرب إلى هذه النافذة من هذا الباشا، ولكن الشيخ أراد أن يستخدم الباشا في هذه المهمة، ليؤكِّد للعلماء أنَّهم أعلى مِن هذا الباشا شأناً ومكانةً..)([19])

إنَّ خُطبة الجمعة ليست إضاعةً للأوقات، وليست تَحسّساً لبعض الأخبار، إنَّما هي اللقاء الأسبوعي، الذي يُوضِّح فيه الإمامُ ما غَمض، ويفصِّل فيه ما أُجْمِل، ولقد (شَعَر رِجالُ التنصير في أوائل هذا القرن (العشرين الميلادي) في مِصر بأهمية خطبة الجمعة ولقاء الجمعة، فكتبَ أحدُ قادتهم في تقرير له قال في ختامه ما معناه: إنَّ الإسلامَ سيظلّ صخرة عاتية، تتحطَّم عليها محاولاتُ التبشير المسيحي، ما دام للإسلام هذه الركائز الأربع: القرآن.. والأزهر.. واجتماع الجمعة الأسبوعي.. ومؤتمر الحج السنوي..([20])

صفات الخطيب:

ولا أستطيع أن أُفصِّل صفات الخطيب في هذه العُجالة، وإنْ كُنتُ قد ذكرتُها في صدر هذا البيان، لكنْ.. ما ينبغي قوله: (لا بُدَّ للخطيب الذي يواجه الناس كُلَّ أسبوع أن يقرأ ويستزيد ويستنير، حتى لا يُكرِّر نَفْسه، ويملّ سامعيه، ولا بدَّ له أن ينوِّع قراءاتِه ما بين دِينية وأدبية، وتاريخية وإنسانية، وغير ذلك من أنواع الثقافات التي ذَكَرْتُها في كتابي (ثقافة الداعية). ولا بدَّ له قبل ذلك من أن يُجرِّد نِيَّته لله تعالى، وأنْ يُجاهد نَفْسَه للتخلص من حظوظها في حبِّ الظهور ومراءاة الناس، فإنَّ الناسَ لَنْ يُغنوا عنه من الله شيئاً، وليَجعل شعاره: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}([21])..

فهذا الإخلاص هو الذي يجعل لكلامه حرارة، ويمنحه قوة التأثير في الآخَرِين، فقد قِيل: إنَّ الكلام إذا خَرج من القَلبِ دَخلَ إلى القلوب، وإذا خَرج من طرف اللسان لم يتجاوز الآذان.. وفي هذا قيل: ليست النائحة كالثكلى..

وينبغي للخطيب أن يكونَ على سَجيته، لا يتكلَّف أنْ يُقلِّد غيره، وأن يكون نُسخةً عن فلانٍ من الناس، حتى لا يفقد أصالته، على أنَّه لن يكون مثل الأصلِ الذي يُقلِّده مهما حاول..

وينبغي للخطيب أن يحترمَ المنبرَ الذي وَقف عليه رسول الله e فَلا يستخدمه في غير أهدافِ الدِّين، وتوعية المسلمين، وتجميع صفوفهم على الهُدى، وكلمتهم على التُّقى، وقلوبهم على المحبَّة، ونيَّاتهم على الصدق، وعزائمهم على عمل الخير، وخير العمل، كما ينبغي له أن يتجنَّب إثارة المسائل الفرعية الخلافية، التي من شَأنها أن تُفرِّق الجماعات، وتُنشئ الحزازات، وتزيد الأمة انقساماً، وأن يتناول ذلك عند الحاجة- في دروسه بعلم وموضوعية وروح أخوية بناءة.

كما ينبغي للخطيب أن يكون كلامه صورة لنفسه، ومعبراً عن سلوكه، وألا يدعو الناس إلى شيء يعمل هو بضده، وينهاهم عن أمر هو متورط فيه، فيقول له الناس في قرارة أنفسهم، وربما بألسنتهم: يا طبيب.. داوِ نَفْسَك أولاً.

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيهـا

تعيب دنيا وناساً راغبيـن لهـا وأنت أكثر منهم رغبـة فيهـا

والله تعالى يقول في كتابه الكريم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}([22])، وقال لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}([23])..

ثُمَّ على الخطيب أن يكون دائم الضراعة والابتهال إلى الله U، موصول الحبال بربه يسأله سبحانه أنْ يُسدد لسانه، ويُثبِّت قَدمه، ويُرْزَق التوفيق والعون من عنده U، فما التوفيق إلا بالله، وما العون إلا من الله، ورَحم الله الشاعر الذي قال:

إذا لم يكن عَونٌ مِن الله للفَتى فأول ما يجني عليه اجتهاده([24])



الخطيب القدير:

وإنَّ (الخطيبَ القدير هو الذي يَملك زمام المبادرة، فلا يَترك الأرواحَ تتفلَّت مِن قَبضته، وهو الذي يَركض في مَيدان الألفاظ، يتخيَّر ما يشاء، ويَهجر ما يشاء، رابط الجأش، قَويُّ القَلب، واثقُ النَّفْس، ثابت القَدم، هادئ الأعصاب، ترتجف القلوب من صولته، وقلبُه في أمانٍ، وتضطرب الأرواح من نبراته وروحه في حِرزٍ مَكين.

والخطيب القدير كالسيلِ الزاحف إذا صَادَفَتْه هضبةٌ طمَّها، وارتقى عليها، وإذا قابَلَتْه حفرةٌ ملأها، وعدَّى عنها، وإذا واجَه صخرةً مَالَ عَنها ذات اليمين وذات الشمال.

والخطيب القدير يهدأ فتسكن الأسماع، وتخفت الأرواح، ويثور فيغلي الجو، ويضطرب الشهود، يستفهم واجماً كالأسد المتأمل، ويتعجَّب مُنذهلاً كالشاعرِ الوَالِه، ويستعطف في العبارة كالفقير اللحوح، ويأمر كالسُّلطانِ المُطاع، ويَرثِي في مَقام الرثاء، فينسى الناس الخنساء، ويعزّي فيذهب حَرُّ المصاب مع برد العزاء.

والخطيب القدير يستظهر الآياتِ البيِّنات فَيُلْبِسُ بتيجانها هاماتِ خُطبه، ويُرصّع بِدُررها حُللَ وَعْظِه، ويحفظ الحديث الصحيح فيُطرِّزُ وَشْيَ كلامِه بجوامع كلمة صلى الله عليه وسلم، ويربط على قلبه بأنفاس المعصوم، عنده الأدب مادته وعصاه بردته، فالأبيات على طرف لسانه يطرّب ويحمّس ويتفنن، وعنده القصص ينشرها بسرد عجيب وطرح غريب فكأن السامع عاشها، والغائب حضرها، تقرأ الأحدوثةَ فلا تُحركك، ولا تُعجبك، ولا تستهويك، وتَسمع الخطيب المصقع يتلوها على الأسماع فَتَصِلَ إلى شِغاف قَلبك المُدْنَف([25])، فتشعل فيه جذوة من الحرارة والحَماس والجاذبية.

الخطيبُ القدير يَصف الليلَ وهو في الظهيرة فتحسّ أنَّك تحت أمال الدُّجى، وتحت أجنحة الدياجير، ويصف النهرَ فتلمس ثيابَك أنْ تبتل وأنتَ ناءٍ عن النهر، ويصف جيش الأعداء البعيد فتنظر إلى مطالع الجبال كأنَّ الطلائع أقبلت والكتائب دَنَت، يَدْعوك للجائعين باذلاً؛ فترمي الخُبزة من يَدك طائعاً ويُناجيك للعراة مُنجداً؛ فتخلع ثوبَك مُسعفاً راضياً).([26])

وقفة مع قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً}([27])

إنَّ أعظمَ خَللٍ يُصيب فَريقاً من الناس، وكمَّاً من الدُّعاة هو الخَللُ في المفاهيم، وكثيرون يتحدَّثون في موضوعٍ ما، دون أن يُحيطوا به من جميع نَواحيه، فَتَرى كلامَهم مَنقوصاً، وحديثَهم مَبتوراً، وفتاواهم عَرجاء، في حاجةٍ لِمَا يُسندها وتَتَّكِئ عليه، فأصابَ الخَللُ جُزءًا من العقائد، وكثيراً من العِبادات، وزَخماً من المعاملات، فكان الفِصامُ النَّكِدُ بين ما يُقال.. ويُرى ويُشاهَد.. وأصابَ الخَللُ المفاهيمَ القُرآنية عند كثيرين، فتصوَّروا المَسْكَنةَ سَكِينةً، والتهوَّرَ شَجاعة، والمُداهنة مُداراة، والإسرافَ كرماً وعطاءً، وتَصوَّروا السُّكوتَ عن كلمةِ الحقِّ لِيناً ومُرونة، وعَجِب أولئك من الذين يَصدعون بها، واستشهدوا بقوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً}([28])، ويا ليتَ القول الليِّن عند أولئك كان حُسنَ تعبير، وفصاحةَ عِبارات، إضافة إلى صِدقِ المضمون، إنما كان سُكوتاً عن الحقِّ، بل ورِضاً بالباطل حتى لا يَغضب الحكام، وكبار المسؤولين، وسلَّط أولئك ألسنتهم المسمومة، وأقلامهم المكسورة، ضد الدعاة المخلصين الذين ينصحون للحاكم دون مداهنة، ويعظونه حرصاً عليه وعلى أمته، دون أن يقرؤوا القرآن قراءة واعية، ودون أن يفهموه فهماً جيداً، قلتُ: عندما قال هود u لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}([29])، هل خالف القول اللين؟! وعندما قال نوح u لقومه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}([30])، هل خَالف القول اللين؟ وهل خَالف إبراهيمُ u القولَ اللين في قوله لقومه: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}([31])، ولا أستطيعُ أن أذْكُر كلَّ الآيات في هذا الموضوع، فهي تَسْطع من القرآن الكريم لِمَنْ تَلا القرآن تلاوةَ تدبُّرٍ وفَهْم، وهل خالف النبي e القول اللين وهو يقول –علي سبيل المثال-: إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك أنت ظالم، فقد تُودِّعَ منهم..([32]) وأحاديث كثيرة في هذا الموضوع.. عُد إليها في مَظانِّها.

ولقد أبدع أستاذنا الدكتور صلاح الخالدي في توضيح هذا الشأن، فقال:

(أمر اللهُ موسى وهارون -عليهما السلام- عندما وجَّههما إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}([33])، "يقف بعض المسلمين في هذا الزمان أمام هذا الأمر الإلهي، فلا يَفهمونه حقَّ فَهمه، بل يحرّفون معناه، ويَجعلونه وثيقة إدانة ضد الدعاة الجريئين، والخطباء الصريحين، والعامِلين الصادقين، الذين يَجهرون بالحقِّ أمام المسؤولين، فينصحون ويذكِّرون وينكرون، إنَّهم يَتَّهِمون هؤلاء بِمُخالفة هذا الأمر، وأنَّهم لا يقولون للمسؤولين قَوْلاً لَيِّناً، بل قولاً عنيفاً شديداً قاسياً منفِّراً، ينفِّرهم من الطاعة بدل أن يُقرِّبهم منها..

ويُقدِّم هؤلاء الناصحون النصائحَ للدعاة بوجوب مراعاةِ القول الليِّن في خطاب المسؤولين، ويفسرون لهم القول الليِّن تفسيراً خاصاً خاطئاً:

إنَّ القَول الليِّنَ يتمثَّل في السكوت عن مُخالفات المسؤولين ومنكراتهم ومفاسدهم، وغض النظر عن الممارسات والسلوكيات الخاطئة التي يقومون بها. القَول الليِّن: يعني إذا شاركهم في مجلس أو حفلة أو لقاء أو اجتماع، وجَرَتْ فيه منهم مُخالفاتٌ ومُنكَرات، أنْ يَصمت الدعاة، وكأنَّهم لَمْ يَروا ولَم يَسمعوا ولم يُلاحظوا. القول الليِّن يعني: إذا فكَّر هؤلاء في الكلام والتذكير، فَلْيَكُن بأخفض صوتٍ وألْيَنه وأضْعَفه، وبلهجةٍ بسيطةٍ ذليلة، تُخرج النصيحةَ الخافتةَ والتذكيرَ المَيت، بسيلٍ من الثناء والمدح والإشادة.

أما إذا وقف الداعيةُ أمام المسؤولين برجولةٍ وثبات، وأنكر عليه مُخالفاتِه ومُنكَراته بوضوح وتحديد، وقال كلمة الحقّ بِجَهرٍ وجرأة وشجاعة، وذكَّره بالواجب بإقدام وثبات، إذا فَعل هذا فقد خَالف الأمر الوارد في الآية، وما قال لهذا المسؤول قولاً لَيِّناً.

ولَم يَخْرج موسى u عن القول اللين، وهو يحاور فرعون هذا الحوار الدعوي، ويقدّم له نفسه بشجاعة وجرأة وصراحة، ويقدم له دعوته بصفاء وبيان وتحديد: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ*وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ*قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ*فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ*وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ*قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ*قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ*قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ*قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ*قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ*قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ*قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ*قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ*قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ*فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ*وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}([34]).

هل تريد بياناً للدعوة أوضح من هذا البيان؟ وهل تريد جرأة وشجاعة وثباتاً أصدق من هذا؟ وهل تريد قولاً ألينَ من هذا القول؟ ولكنَّه اللِّينُ مع الوضوحِ والحَسْم والجزم والتحديد، وهل تريد لهجة أصدق وأثبت من هذه اللهجة؟

هكذا يكون القول اللين: ويا ليتَ الناصحين يُوضحون هذا للآخرين.

وما زلنا مع موسى الكريم u لنتعلم منه كيفية القول اللين.

ففي موقف من مواقف مواجهته لفرعون، وكلامه معه بالقول اللين، آذاه فرعون بالكلام توقَّح عليه، ووجَّه إليه ما يشبه الشتم والإهانة. فماذا فعل موسى u؟ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً* قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً}([35]).

كان من القول الليِّن: أن يكشف موسى u لفرعون مغالطاتِه، وأن يبين له عِلمه بأنَّ الآلهة المزيَّفة لا تملك شيئاً، ومعرفته بأنَّه لا إله إلا ربّ العالَمين، لكنه يغالط في هذا، ويزعم إنكار الألوهية لله رب العالمين.

قال فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحوراً، فأجابه موسى u برجولة وجرأة وتحديد وصراحة: إني لأظنك يا فرعون مثبوراً.. والمثبور هو الهالك الخاسر.

*والسؤال الذي نوجّهه للناصحين المنظرين: هل كان موسى u مخالفاً للقول اللين عندما قال لفرعون: إني لأظنك يا فرعون مثبوراً؟

والتساؤل الذي نطرحه: لو كان موسى u يعيش في زماننا هذا، وقال الكلام هذا، فبماذا يَصفه الواصفون؟ ومَع مَنْ يُصنفونه؟.

بهذا التفسير الواضح من موسى uيجب أن نفهم المراد بالقول اللين وكيفية ومجال قوله؟ ويجب أن نعرف كيف قال موسى هذا القول اللين لفرعون، من خلال الاطلاع على مشاهد المواجهة بينهما التي أشار إليها القرآن الكريم، والتي تُعتبر هي التفسير العملي للأمر الرباني بالقول اللين.

*بعد هذا نقول: إنَّ القول اللين هو في أسلوب مخاطبة المدعوين –ومنهم المسؤولين- وفي ألوان هذا الخطاب، وفي درجته ومستواه، وفي القالب الذي تُقدَّم فيه الحقائق، والصورة التي تُعرض فيها، والإطار الذي تكون ضمنه، وفي اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات التي تدل على الموضوع.

ولا يمكن أن يكون القول اللين في الموضوع والمضمون، والحقائق والمقررات، والمعالم واليقينيات، والخطة والمنهج، لأنَّ هذه الأمور لا تقبل المساومة ولا المفاوضة، ولا المداهنة ولا التنازل، ولا تأجيلها ولا إخفاءها..

والقول الليِّنُ في أسلوب الخطاب لا مضمونه، القول اللين في عرض الحقيقة لا في جوهرها وكُنهها.

يريد ناصحون من الدعاة أن يتنازلوا عن المضمون والجوهر باسم القول اللين، وأن يُخفوا الحقائق والمقررات باسم القول اللين، وأن يباركوا الفساد والانحراف والمنكر باسم القول الليِّن، وأن يتخاذلوا ويَجْبُنوا ويذلوا أمام المسؤولين بِاسْمِ القول الليِّن.

وهُمْ ظَالِمون لأنفسهم ولإخوانهم ولدِينهم وإسلامهم. هم ظالمون لمفهوم ومعنى القول اللين، ظالمون لموسى في فَهمهم عنه التزام القول الليِّن.

نأخذ معنى القول اللين وطريقة تنفيذه من أوامر الله لمحمد u، التي بلَّغها بطريقة القول اللين: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...}([36]).

*وقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([37]).

ونأخذ القول اللين من ذلك "المسلم الذي قال لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب t: اتق الله. فقال له أحدهم: أتقول هذا لأمير المؤمنين؟ فأجابه عمر: لا خَيرَ فِيكم إنْ لَم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها؟".([38]).

خطأ الخطيب!!

*يَحلو لبعضهم إذا تحدَّث الإمام بما لا يُوافق هَواهم أن يعترضوا عليه بحجةِ أنَّه أخطأ، قلتُ: ولا عصمة لأحدٍ بعد النبي e، ولم يَدَّعِ الإمامُ ولا الخطيبُ ذلك، إنَّما الخطأ يُحدده الشَّرْع، مَدعوماً بآياتٍ قُرآنية وسُنَّة نبوية، لا أنْ يكون الخطأ مُخالفة هَوى بعضِ المُستمعِين الذين يَأتي بعضهم يَستمع إلى ماذا يقول الإمام عن مشكلة هو صاحبها، وفَصِيلُه هو المسؤول عنها، فهو –بهذا المعنى- لَم يَأتِ ليستفيد، ولمْ يَخْطُ خُطواتٍ إلى المسجد لينتفع بجديدٍ، فهذا جاء إلى المَسجد ولم يُصلِّ، وإنْ رَكعَ وسَجد، فإنَّه فَقَدَ النِّيةَ التي هي شَرط أساسي لقَبول الأعمال، وإلا.. فإنَّ العالِم إذا أُريدَ منه أن يَتكلم وفْقَ هَوى الناس، فَلَنْ يَكون عَالِماً، بل لا بُدَّ أن يَرتقي بمفاهيمهم، وأن يَسْمو بأفكارهم، وأن يُصحِّح أخطاءهم، وأن يُقوِّم اعوجاجهم، فما أشبهه بطبيبٍ جرَّاح بارعٍ مُبدع، يمزع الأجسام، ليستأصل العفنَ والفساد، وإنْ كان في هذا أَلَمٍ، لكنَّه أَلَمٌ بعده شفاء، وما أجمل الشفاء بعد مرض وعناء.. ويا ليتَ أولئك المعترضين، اعترضوا بأدبٍ، وعارَضوا بأخلاق، إنَّما سَعَى بعضُهم لإفسادِ جوِّ الخطبة، ومُناخ الوعظ، وتُربة التربية، ولا نَجد هؤلاء الذين يصرخون ضد إمامٍ ما قد تحدَّثوا عن جرائم في المجتمع، ولا عن مآسي في حياة الناس.. نُهبت الأرض فما تكلَّموا، قُتل الأبرياء فما تحدَّثوا، غُيبت الشريعة فما نطقوا، انتشرت الرشوةُ والواسطة والمحسوبية فما قالوا شيئاً..

فيَا مَنْ تَعترضون على إمامٍ تعرَّض لقضيةٍ سياسية، وزعمْتُم أنَّه أخطأ، لأنَّه ذَكَرَ شَيئاً لا يُوافِق هَوَاكم، وَهَبْ جَدلاً أنَّ الإمامَ أخطأ أو تحدَّث بما لا يُوافق رغباتِكم، أَهُوَ الخَطأ الوحيد في المجتمع؟ فأينَ اعتراضكم على شَتْمِ الله؟ وسبِّ الدِّين؟ وأين اعتراضكم على سرقة الأرض؟ وترويع الآمنين؟ وأين اعتراضكم على جرأةِ التلاميذ على المُدرِّسِين؟ وأين اعتراضكم على نومِ كثيرين في بيوتهم دونَ عمل؟ و يَتقاضَون في الوقت ذاته مُرتباتٍ عاليةً ؟ أين اعتراضكم على أموالٍ هُدِرت، ودماء سُفِكت، ونُفوسٍ زُهِقَت؟ وأعناقِ ذُبِحت؟ لماذا تَسْكُتون عن كلّ هذا وتتجرؤون على إمامٍ في مسجدٍ تحدَّث بما لا يُوافق هَواكم، وجَعلْتُم من أنفسِكم عُلماءَ في كلِّ شيء، وأنتم لا تَعْلَمُون شيئاً، ولا ثوابتَ عندكم إلا التَّغُيَّرات الدائمة، ونَسِيتم أنَّ صلاة الجُمعة ليستْ جَاهةً، ولا نُزهة، إنَّما هي ذَهاب إلى المساجدِ بِنِيَّة الاستفادةِ، وقبول الوَعظ وإنْ كانَ شَديداً، والرغبة في التغيير والتبديل قبل أنْ يُداهِمكَ الموتُ فجأةً فَتَلْقَى اللهَ مُفْلِساً، وإنْ صلَّيتَ وزكَّيْتَ وزَعَمْتَ أنَّك مُسْلِم...



الشيخ عبد القادر الجيلاني نموذج للداعية الناجح الذي يحمل هموم الأمة..

لا يتَّسع المقام للحديث بالتفصيل عن هذا العالِم الربَّاني الجليل، الذي كان يحمل هموم الأمة، وسخَّر دعوتَه للتغيير والإصلاح، وصدَع بكلمة الحقِّ، حين سَكتَ عنها كثيرون، ونافقوا الحكامَ وكبارَ المسؤولين، وقد وُلد الشيخ المذكور سنة 470هـ-1077م، في جيلان، وجيلان هذه بلاد متفرقة وراء طبرستان جنوب بحر قزوين، وقد وُجد الشيخُ في بيئةٍ مضطربةِ الأحوال في شتَّى مجالات الحياة، السياسية منها والاقتصادية والفكرية، فسلَّ سيفَ لسانِه على الباطل، وأشرع رمحَه في صدرِ الطغيان، وشدَّ بأسهمه الموجَّهة بآياتِ القرآن على النفاق والكذب والبهتان. وسوف نقف على محطاتٍ في حياة هذا الداعية الكبير الذي أرجو أن يكون قدوة لكثيرين ممَّن أكلوا بدِينهم، وشربوا بإسلامهم، ورضي الله عن ابن مسعود إذ كان يقول: لأنْ آكل بالطبل والمزمار، أحبّ إلي مِن أن آكُل بِدِيني..

حارُّ العاطفة لا حادّ الطِّبَاع:

-كان الشيخ عبد القادر -في مواعظه- شديد الحماسة للإسلام، مُشفقاً لما آلت إليه تعاليمُه في حياة الناس، ويودّ لو استطاع استنفارَ الخَلْقِ جميعاً لنصرة الإسلام. يقول في أحد مجالسه: دِينُ محمد e تتواقع حِيطانه، ويتناثر أساسُه، هلمُّوا يا أهل الأرض، نُشيِّدُ ما تَهدَّم، ونُقيم ما وَقع! هذا شيءٌ ما يتمّ، يا شمسُ، ويا قمرُ، ويا نهار تعالَوا.([39])


معرفتُه لهدفه:

- وكان يرى نَفْسَه مبعوثَ القُدرة الإلهية، ونائباً عن الرسول e في بَعْثِ الرُّوح الدينية في المجتمع وفي قلوب الناس. ومن أقواله في ذلك: إلهي! أسألُك العفو والعافية في هذه النيابة، أعنِّي على هذا الأمر الذي أنا فيه. قد أخذتَ الأنبياء والرسل إليك، وقد أوقفتني في الصف الأول أُقاسي خَلْقَك، فأسألك العَفْوَ والعافية. اكْفِني شرَّ شياطين الإنس والجنّ، وشر جميع المخلوقات.([40])

حبُّه للوعظ:

ويقول في موعظةٍ أخرى: سُبحان مَنْ أَلْقَى في قَلبي نُصْحَ الخَلْق، وجَعَله أكبر هَمِّي. إنِّي ناصحٌ ولا أريد على ذلك جزاءً. آخرتي قد حصلتْ لي عند ربِّي U. ما أنا بِطالبِ دُنيا، ما أنا عبدُ الدنيا ولا الآخرة. ولا سوى الحق U. فَرَحِي بِفَلاحِكم، وغَمِّي لهلاككم، إذا رأيتُ وجْهَ مُريدٍ صَادقٍ قد أفلحَ على يدي شَبِعْتُ وارْتَويت، واكْتسوتُ، وفَرِحْتُ كيف خَرجَ من تَحت يدي.([41])

حِرصُه على أُمته:

ومن أقواله كذلك: ألا إنِّي راعٍ لكم، ساقٍ لكم، ناطورٌ لكم. ما ترقَّيت هاهنا وأرى لكم وجوداً في الضر والنفع، بعدما قطعتُ الكلَّ بسيفِ التوحيد، أُلزمتُ هذا المقام. حَمْدُكم وذمكم، وإقبالكم وإدباركم عندي سواء. كَمن يذمّني كثيراً، ثم ينقلب ذمّه حَمداً. كلاهما من الله لا مِنه، إقبالي عليكم لله، أَخْذِي مِنكم لله. (ويبلغ القمة في الحرص على أمته فيقول): لو أمكنني دخلتُ مع كلٍّ مِنكم القبرَ، وأجَبْتُ عنه مُنكراً ونَكيراً رحمةً وشفقةً عليكم.([42])

بهذا الحماس انطلق الشيخُ عبد القادر يستنفر المسلمين إلى الالتفاف حول الإسلام، ويدعوهم إلى العودة إلى تعاليمه وحَمْلِ رسالته. وكان يرى أنَّ صَلاحَ دِين الفَرد لا يتمّ إلا بإصلاحِ القلب، وفكِّ إساره من حُبِّ الدنيا والأخلاق الذميمة، ومِن كل ما يشغل عن الله.([43]) ومِن هُنا.. كثرت في مواعظه دعوة الناس إلي التربية والتزكِّي.([44])



نَقدُه للتعصُّبِ المَذهبي:

وانتقد الشيخُ عبد القادر سلوكَ بعض العلماء في ذاك العصر، خاصة المُتعصِّبِين لِمَذاهبهم، والطامعين بما في يد الحكام. (فَشَنَّ حَمْلةً شديدةً على العلماء واعتبرهم تُجَّاراً يتاجرون بالدِّين، ويُساهمون في ارتكاب المحظورات، ومِن مواعظه العامة في ذلك قوله: " يا سَلاَّبِين الدُّنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابِها. يا جُهَّالاً بالحقِّ! أنتم أحقُّ بالتوبةِ من هؤلاء العَوَام. أنتم أحقُّ بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء! لا خير عندكم.([45])


حملتُه على علماء السلاطين:

وكان يعيب عليهم تَقرُّبهم من السلاطين، وطَمَعِهم بما في أيدي الحكام. يقول في موعظةٍ ألقاها في المدرسة([46]) في 9 رجب 546هـ -1151م: لو كانت عندك ثمرةُ العلم وبَرَكته لما سَعَيتَ إلى أبواب السلاطين في حُظوظ نَفْسِك وشَهَواتِها. العَالِم لا رِجْلَين له يسعى بهما إلى أبوابِ الخَلْق. والزاهدُ لا يَدَيْن له يأخذ بهما أموال الناس. والمُحبّ لله U، لا عَينين له ينظر بهما إلى غيره..([47])

ويقول في موعظةٍ ألقاها في 20 شعبان من السنة نفسها: (يا خونةً في العِلم والعمل. يا أعداءَ الله ورسوله. يا قاطعي عباد الله U.. أنتم في ظلمٍ ظاهر، ونفاقٍ ظاهر. هذا النفاقُ.. إلى متى؟ يا علماء.. يا زُهاَّد! كَم تُنافقون الملوك والسلاطين حتى تأخذوا منهم حطام الدنيا وشهواتِها ولذَّاتِها؟ أنتم وأكثر الملوك في هذا الزمان ظَلَمة خَوَنة في مالِ الله U وفي عباده. اللهمَّ اكْسِرْ شَوكةَ المُنافِقِين. واقْمَع الظَّالِمِين، وطَهِّر الأرضَ منهم، أو أصْلِحهم.. آمين..([48])

تحذيرُ طلاب العلم من الاغترار ببعض العلماء:

ونَهى الطلاب عن الدراسة على هذا النمط من العلماء فقال: يا غلام لا تغترّ بهؤلاء العُلماء الجهال بالله U، كلُّ عِلْمهم عَليهم لا لهم. هُم علماء بحُكم الله U.. جُهَّال بالله U.. وهُم يَفِرُّون منه، يبارزونه بمعاصيهم وزلاتهم. أسماؤهم عندي مؤرخة معدودة.([49])

وحذَّر عامة الجماهير من حضور مواعظهم والاستماع إلى أحاديثهم فقال: يا عباد الله!.. لا تسمعوا من هؤلاء الذي يُفْرِحون نُفوسَكم. يَذِلُّون للملوك، ويصيرون بين أيديهم كالذرّ، لا يأمرونهم بأمره، ولا ينهونهم عن نهيه. إنْ فَعلوا ذلك فعلوه نِفاقاً وتَكلُّفاً، طهَّر اللهُ الأرض منهم ومن كلِّ مُنافق، أو يتوبَ عليهم ويَهْدِيَهم إلى بابه.. إنِّي أغارُ إذا سمعتُ واحداً يقول: الله .. الله، وهو يرى غيره..([50])

وهاجم المُتعصّبين للمذاهب ومن ذلك قوله: دَعْ عنكَ الكلام فيما لا يَعنيك، اتْرك التعصُّبَ في المذاهب، واشتغلْ بشيءٍ ينفعك في الدنيا والآخرة..([51])

وكثيراً ما خصَّ الشيخ عبد القادر الحاكمِين بانتقاداته، وحذَّر الناس من الانصياع لهم بما يُخالف الشريعة، يقول في أحد المجالس: صارت الملوكُ لكثيرٍ من الخَلق آلهة. قد صارت الدنيا والغنى والعافية والحول والقوى آلهة. وَيْحَكُمْ.. جَعلتم الفرعَ أصلاً، المَرزوق رازقاً، المملوك مَالِكاً، الفقير غنياً، العاجز قوياً، والميت حياً.. إذا عظَّمْتَ جبابرةَ الدنيا، وفراعينها، وملوكها وأغنياءها، ونسيت الله U ولم تعظمه، فحُكمك حُكم مَن عَبد الأصنام.. تُصيِّرُ مَنْ عَظَّمْتَ صَنَمَك.([52])

نقدُه.. للولاة والمُوظَّفين:

وانتقدَ الوُلاةَ والمُوظَّفِين الذين يَجتهدون في تنفيذ أوامر السلاطين دون تَحرُّزٍ([53])، يقول في إحدى مواعظه: يا غلام!. اخْدم الحقَّ U، ولا تشتغل عنه بخدمة هؤلاء السلاطين الذين لا يضرُّون ولا ينفعون. إيش يعطونك؟ يُعطونك مَا لَمْ يُقسَم لك؟ أو يقدرون يقسمون لك شيئاً لم يقسمه الحقُّ U؟ لا شيء مستأنف من عندهم، إنْ قُلتَ إنَّ عطاءهم مستأنف من عندهم كفرتَ.([54])

ويؤكِّد الشيخ عبد القادر على وجوب طاعة أقطاب الزهد السني، لأنَّهم الخلفاء الحقيقيون للرسول e في أمر الدين، وهم الملوك، لأنهم يأخذون المال من أغنياء أتباعهم ليردوه إلى فقرائهم دُونَما تأثُّرٍ بِهَوى، أو طلبٍ للثناء. أمَّا الحكام والأمراء فخلافتهم ظاهرية، لأنَّهم نهَّابون يَنْهبون ولا يَهَبُون.([55])

مواجهته الخليفةَ مِن عَلى المنبر:

ولم تتوقَّف انتقادات عبد القادر عند المواعظ العامة، وإنَّما تناولت المواقف الخاصة التي تبرز فيها انحرافات أو مظالم. ففي عام 541هـ 1146م ولَّى الخليفةُ المقتفي لأمْر الله .. يحيى بن سعيد المعروف بابن المرجم القضاءَ، فمضى الأخير في ظُلم الرعايا ومصادرة الأموال، وأخْذِ الرَّشَاوى، فكُتبتْ ضده المنشورات وأُلصقت في المساجد والشوارع..([56]) دون أن يستطيع أحدٌ أن يجهر بمعارضته، ويذكر سبط ابن الجوزي والتادفي أنَّ الشيخ عبد القادر اغتنم وجود الخليفة في المسجد وخاطبه مِن على المنبر قائلاً: وَلَّيْتَ على المسلمين أظلم الظالمِين، فما جوابك غداً عند ربِّ العالمين أرحمِ الراحمين؟ فعزلَ الخليفةُ القاضي المذكورَ.([57])

حملتُه على الأخلاق الاجتماعية السيئة:

وانتقد الشيخُ الأخلاقَ الاجتماعية في عصره.. فقد نَظر الشيخ إلى المجتمع المعاصر على أنَّه مجتمع (الرياء والنفاق والظلم وكثرة الشبهة والحرام) وهذه الصفات أحالَتْ كلَّ شيءٍ فيه إلى مَظاهرَ خاويةٍ لا روح فيها ولا معنى.. ويستوي في ذلك المُتدينون وغيرهم. يقول في إحدى مواعظه: هذا زمان الرياء والنفاق، وأخْذُ الأموال بغير حقٍّ. قد كَثُرَ مَنْ يُصلي ويصوم، ويحج ويُزكِّي، ويفعل أفعال الخَير للخَلْق لا للخَالق. فقد صار معظمُ الناس بلا خَالق. كُلكم مَوتى القلوب، أحياء النفوس والأهواء، طَالبون للدنيا..([58])

سيفٌ على النفاق:

ولقد ركَّز عبد القادر تركيزاً قوياً على محاربةِ النفاق والأخلاق الاجتماعية التي سادت، واعتبر أنَّ مُهمته الأولى محاربةُ ذلك، وأنَّه (مُسلَّط على كلّ كذَّاب مُنافق دَجَّال).. يقطع أقفية المنافقين الكذابين في أقوالهم وأفعالهم.([59])، لأنَّ المنافقين أعداء كلّ صلاح، وهم يستغلُّون كلَّ وسيلةٍ بما فيها الدِّين نَفسه للوصول إلى شهواتهم، وتحقيق أهوائهم، وما لم يتب الفرد من (الكذب والنفاق والتصنع) فلن يأتي منه خير.([60])

قد تصل حَملته على النفاقِ درجاتٍ من الشدة والانفعال تَدفعه إلى التبكيت العنيف لمعاصريه، يقول في إحدى مواعظه: (ملائكتكم تتعجَّب من وقاحتكم. تتعجَّب من كَثرة كَذِبكم في أحوالكم. تتعجَّب من كَذِبكم في تَوحيدكم. كلّ حَديثكم في الغَلاء والرخص، وأحوال السلاطين والأغنياء. أكَلَ فُلانٌ، لَبِس فلان، تزوَّج فلان، استغنى فلان، افتقر فلان. كلّ هذا هَوس، ومَقْت وعقوبة. تُوبوا واتْركوا ذنوبكم وارجعوا إلى ربِّكم دون غيره. اذكروه وانْسَوا غيره. الثبات على كلامي علامة الإيمان، والهرب منه علامة النفاق. يا مَن تطعن فيَّ، تعال حتى نحكَّ حالتي وحالتك على الشرع، فمَنْ خَرَجت حالته شبهاً استحقَّ أن يُطعن فيه، وأن يهجر ويموت باسم الله تعالى. ابْرز ولا تختبئ كالمخانيث، ذاك لا شيء.. بل هو هوسٌ وتوانٍ.([61])

نُصرةُ الفقراء والمحتاجين:

ولقد ركَّز عبد القادر على نصرة الطبقة العامة والفقراء خاصة، فجعل الاهتمام بشؤونهم من شروط الإيمان. وشنَّ حملة شديدة على الولاة الذين يَظلمونهم، وعلى الأغنياء الذين يخصون أنفسهم دون إخوانهم من الفقراء بأطايبِ الأطعمة، وأحسنِ الكسوة وأجملِِ المنازل، وأحسن الوجوه، وكثرة الأموال، فأفْتى بأنَّ انتسابهم إلى الإسلامِ دعوة كاذبة، وذريعة لحقن دمائهم بالشهادتين..([62])

ولقد جعل عدمَ التفرقة بين الغني والفقير من شُروط تقدم المريد في مقامات التزكية أو نجاة المُسلم من عقاب الله. وشدَّد في وصيته المشهورة لولده عبد الرزاق على خدمة الفقراء وحسن التعامل معهم.. حَسْبُك من الدنيا شيئان صحبة فقير، وحرمة وليّ، وعليك يا ولدي.. أن تصحب الأغنياء بالتعزز والفقراء بالتذلل.([63])

ويتَّضح مما كتبه المؤرخون الذين أوردوا أخبار عبد القادر أنَّ اهتمامه بالفقراء لَم يَقفْ عند حدّ الوعظ، وإنما تَرجمه إلى عملٍ وواقع. فكان يفتح بابَه للفُقراء والغرباء، ويُقدم لهم المَنام والغذاء، ويحضرون الدرس ويعطيهم ما يحتاجون.([64])

وكان يرى هذا الأسلوب من أفضل الأعمال، فلقد نُقل عنه قوله: فتَّشْتُ الأعمالَ كلها، فما وجدتُ فيها أفضل من إطعام الطعام ولا أشرف من الخُلق الحَسن. أودُّ لو كانت الدنيا بيدي أطعمها الجائع، كَفِّي مَثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لَمْ تَبِتْ عندي..([65])

لهذا كلِّه.. أقبلت العامة والفقراء على عبدِ القادر إقبالاً شديداً وتحمَّسوا له، وتابَ على يديه مُعظم أهل بغداد. فقد روي عنه قوله: وتابَ على يدي من العيارين([66]) والمسالِحة([67]) أكثر من مائة ألف وهذا خير كثير..([68])

قلتُ: هذا قليلٌ من كثيرٍ ذَكَرْناه من دَور هذا العالِم الرباني الجليل الذي حَمل همَّ إسلامه ودِينه، وتفاعل مع قضايا مجتمعه وشعبه، فسخَّر كلماتِه ومواعظه في نصرة المظلومين، وتقوية المستضعفين، وفَضْح المُنافقين الكاذبين، ولقد نَقَلْنا كل ما سبق من كتاب هكذا ظهرَ جيل صلاح الدِّين وهكذا عادت القدس للأستاذ الفاضل الدكتور ماجد عرسان الكيلاني حيث وضَّح الأستاذ المذكور دَورَ هذا الشيخ وغيره في تهيئة الأمة لتخرِّج أمثال صلاح الدين الذي حرَّر القدس، ومن هنا.. يجب أن ندرك دور القاعدة في الإصلاح، ودور الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية في رُقيِّ الأمم ونهضتها.

رُوحُ علمائنا تَسْري فينا..

ولقد تنسَّمت الصحوةُ الإسلامية عبيرَ هذه المواعظ ونَسيم تلك المواقف، فكانت أمَلَ الأمة، وما زالت في تصحيح كثيرٍ من المفاهيم، وفي رَدْعِ الظالِمين المُتكبِّرين، ولقد استقى أساتذةٌ في العصر الحديث من مَعين الشيخ عبد القادر وأمثاله، فحملوا هُموم الأمة، همَّ الاستبداد السياسي، وَهَمَّ التخلُّف الاقتصادي، وهَمَّ التخاذل أمام الأعداء الذي أُصيبت به الأمة على يَد الثوريين، وغيرهم من الحكام والملوك الذين لا يَرجون لله وقاراً وقد خَلَقهم أطواراً.

فوجدنا أمثال الشيخ الغزالي –رحمه الله- في كُتبه ومؤلفاته وهو يَحمل على المُترفين والمُستبدين، والعِلمانيين الحاقدِين، وذَكر همومه في مؤلفاتِه وحَقِّه المُرّ من عدة أجزاء، ووجدنا الشيخ القرضاوي -حفظه الله-، الذي تعلَّم من أستاذه الغزالي وغيرِه من الشيوخ الكبار، فحملَ همومَ الأمة الجريح في طول الدنيا وعَرضها، وسافر إلى شتَّى دول العالَم يُلقي محاضرات ويَصدع بكلمة الحقِّ لا يخشى في الله لَومةَ لائم، ووجدت فتاواه قَبولاً حَسناًً، وانتشرت مؤلفاته انتشاراً واسعاً، وترجمت إلى لغاتٍ شتى، تؤكِّد صلاح الشريعة لكل زمانٍ ومكان، وأنَّ الإسلام مفتاح شخصية هذه الأمة، ومن أكثر القضايا التي حَمل همَّها، قضية فلسطين وشعبها، وحمل همَّ فقراء ومجاهدي فلسطين.

ووجدنا الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في ظلاله الذي وظَّف فيه بلاغَته في اللغة العربية، وفصاحته في لغة الضاد، فقدَّم تفسيراً واضحاً للقرآن الكريم بأسلوبِ السهل الممتنع، وألجم الشيوعيين، وألزم العِلمانيين جُحورهم، وتوقَّع السقوط لأهل الباطل.. وقد كان. فالمُستقبل لهذا الدِّين.

ووجَدْنا الحركةَ الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية، وفي أرض الرباط فلسطين خاصةً، حيث حملت همَّ الأمة أيضاً وهي جُزء كبير عريض من الصحوة الإسلامية المباركة، فاهتمت بالتوعية السياسية، والفكرية، وكذا بالجوانب الاقتصادية فأنشأت مؤسساتٍ وجمعياتٍ خيريةً ترعى الفقراء والمساكين والأيامَى واليتامى والأرامل، واهتمَّت بالجوانب التعليمية فأنشأتْ رِياض أطفال إيمانية لتربية النشء على الاستقامة، وأقامت مدارسَ ومعاهد تستمدّ منهجَها من القرآن العظيم، وتحوَّلت المساجد التي تُديرها خلايا نَحْلٍ لا تَعرف المَلل ولا الكَلالة، بل هو النشاط والحيوية، والهِمة العالية، وتُوِّجت نهضتها الأكاديمية بإنشاء الجامعة الإسلامية المباركة التي تضخّ كلّ فَصل مئاتٍ من الشباب ومثلهم من الفتيات، يتغلغلون في المجتمع فينير بعد ظلام، ويَقوى بعد ضعف، ويستقيم بعد عوج، ويثبت وقد أراد له كثيرون التميع والضلال.

وظَهَر كلُّ هذا في الانتخابات التشريعية الأخيرة وفي فوز الحركة بنصيب الأسد، مما يدل على محبةٍ في القلوب، وقبول لدى عموم الأمة، وصَبرتْ صَبراً عجيباً ضدَّ كل المؤامرات، وما زالت متمسكة بالثوابت التي من أجْلِها نَجحت وبسببها قويت، وصبرت، قلتُ: إنَّ وجودَ الصحوة الإسلامية والحركة الإيمانية وعلماء الأمة المخلصين دليلُ نجاح الشيخ عبد القادر وأمثاله، وبرهان أنَّ جُهدهم لم يذهب هباءً، فقد أزيل ما رَانَ على مؤلفاتهم ومراجعهم، فقد وجدت مَنْ كَشفها، وحقَّقها، وطبعها، وأحْسنَ التعليقَ عليها، لتكون نُوراً يهدي. وضِياءً مَنْ سَلك سبيلَه لا يَضل.. ومن هنا.. تَظهر قِيمة العُلماء الذين يُراد لهم أنْ يَقبضوا وهُم نائمون، وأن يأخذوا وهم ساكتون، وإذا تكلَّموا.. تكلَّموا بما لا يُفيد، وغَرَّدُوا خَارج السرب، وحلَّقوا في غير السماء، فجَعلوا كلماتِهم دَعماً لكاذبٍ، ودَفْعاً لِصَادق، وتَشويهاً لِسُمعة مُخْلِص، وقد عَلِمَ أولئك أنَّ العالِم ليس هو الذي يجيب إذا اسْتُفْتِيَ وحَسْب، بل هو الذي يَدفع الظُّلم عن الناس، ويتحدَّث في كل قضاياهم الكبرى المحلية والإقليمية. عندها.. يكون أولئك عُلماء ربَّانيين، فليس العِلم حَمْل شَهاداتٍ وحَسب، إنما هو ترجمة لتلك الشهادات في واقع الدنيا..

أيَـا عُلماء الدِّينِ مَا لِي أراكُـم

تَغاضيتُم عَـن مُنْكَرات الأوامـرِ

أما الأمرُ بالمعروفِ والنَّهي فَرْضكم

فأعرضتـمُ عن ذاكَ إعْراضَ هَاجِـرِ

أمـا أخَـذَ المِيثــاقَ رَبِّي عليكـمُ

بأنْ تَنصحوا بالحـقّ أهـلَ المناكـرِ

فإنْ هُمْ عَصوْكُم فاهْجُروهم وهَاجِرُوا

تنالوا بنصـرِ الدِّيـن أجْر المهاجـرِ

إذا كان هـذا حَـالَ قـاضٍ وعَالِـمٍ

وحـالَ وزيـرٍ أو أميـر مظـاهـرِ

ولَمْ تَنتهـوا عن غَيِّكُــم فترقَّبــوا

صواعــق قهَّـار وسَطـوة قاهـرِ

فمـا الله عمَّـا تَعْملــون بِغَافــلٍ

ولكنَّـه يُمْـلِـي لِطَــاغٍ وفَاجــرِ

وقد أرْسَـلَ الآيـاتِ مِنـه مُخوِّفـاً

ولكنْ غَفلتُم عن سَمـاعِ الزواجــرِ

أجيبوا عبـادَ الله صـوتَ مُناصِـح

دَعاكُم بصوتٍ مَا لَـه مِن مُناصـرِ

وقُوموا سِراعاً نحو نُصـرةِ دِينكـم

إذا رُمتم في الحَشْر غُفـران غافـرِ

وحُسن خِتام النَّظْـمِ أزْكَى صَلاتِنـا

على المُصطفى والآلِ أهْلِ المفاخـرِ



قِصَرُ الخطبة وطُولُها:

يتحدَّث كثيرون عن السُّنة في خطبة الجمعة، وتُرك هذا المجال لكثير من الناس حتى تحدثوا بما لم يُحسنوا، وأفْتَوا في قضيةٍ لم يحيطوا بها علماً، وليست هذه هي القضية الأولى من قضايا هذا الدِّين العظيم التي تأخذ وقتاً من الناس، ويا ليتهم جعلوا أوقاتهم في العمل المفيد، والإبداع العظيم، وليس في جَدلٍ لا يأتي بنتيجة.

صحيحٌ أنَّ قِصَر الخطبة وإطالةَ الصلاة من مؤنة الإمام وزيادة فِقهه وسعة اطَّلاعه، وبعضُهم يريد قِصَراً وفق هواه، فيُحدِّدها بدقائق مَعدودة لا تكفي ولا تَفِي بالغرض منها، وهي اللقاء الأسبوعي الهام بالأمة الجريح، فإذا أطال الإمامُ الصلاة، قالوا إنَّ السنَّة هي التخفيف، والحقّ في هذه القضية أنَّ القِصَرَ إنْ أضرَّ بالخطبة فهو مذموم، وإنَّ الإطالةَ إنْ أضَرَّتْ بها فهي مذمومة أيضاً، فالشيء المطلوب هو الاستفادة وتوضيح الحقّ للناس، في إطالةٍ غير مُملِّة، أو قِصَرٍ غير مُخلٍّ.. كما قال علماؤنا، وإذا كانت الخُطب فيما مضى -كما تَذكر بعضُ كتب التاريخ- قصيرةً، فإنْ صَحَّ هذا.. فإنَّ الأمةَ كانت في صَدْرِ انطلاقها، وتُحسن فَهْمَ لُغتها وكتاب ربِّها، فليست في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الشَّرح، ولا إلى زيادةٍ في التفسير، فكان الاختصارُ بلاغةً، وكان التلميح فصاحةً، وكان أكثر المسلمين يتوافدون إلى صلاة الجمعة قبل وجود الإمام، يتلونَ القرآنَ ويُصلُّونَ ما استطاعوا.. ولك أنْ تنظر هذه الأيام لترى المساجدَ فارغةً، والخطيب يخطب، ولا تمتلئ إلا في الخطبة الثانية، والعجيب أنَّ الذين يَشْكُون من طُول الخطبة عند بعض الخطباء هُم آخر مَنْ يَأتي إلى المسجد، ويبدو أنَّ في نفوسهم شيئاً، وفي جوارحهم كَسلاً، وفي قلوبهم قسوة وهم لا يشعرون.

وإذا قيل إنَّ القِصَر من السُّنة، فَمَن الذي حَدَّد القِصَر بعشرِ دقائق أو خَمس عشرة دقيقة؟ ولعلَّ بعضهم يقول: انْظر إلى خُطب النبي e والخلفاء الراشدين من بعده، تراها كلماتٍ معدودات، وربما كان بعضها لا يزيد عن صفحةٍ واحدة، وأرادَ بعضُهم أنْ يُقلِّد هؤلاء العظماء كأنَّه أُوتِي جَوامع الكَلِم، فقَلَّدَهم في الشَّكْلِ، ولَمْ يُقِلِّدْهم في الجَوْهر، ونَسي أنَّ الأمة في ذاك الوقت كانت تستمع كثيراً إلى علمائها وخلفائها وحكمائها، وكان للمساجد دويٌّ كدويِّ النحلِ نشاطاً وحيوية.. لكن.. هنا سؤال هام: هل يُعقل أنَّ خُطب الخلفاء كانت بهذا القِصر وهُم يُواجهون الفُرس والرُّوم، ويُواجهون رِدَّةً داخلية، ومؤامراتٍ خارجية؟! أَمْ إنَّ التاريخ لَمْ يَحفظ لنا الخُطب كاملة غير منقوصة؟ أم إنَّ هناك يداً عَبثت بتلك الخُطب حتى لا تكون حجَّة على الحُكَّام المتأخِّرِين؟، كُلُّ هذا مُمكن، يستنبطه المؤرخ الناجح..

فإنَّ مصادر الفكر السياسي في الإسلام تعرَّضت لضربةٍ قاصمة، (هذا المصدر هو خطب الرسول e التي كان يخطبُها أيام الجمعة –الصلاة جامعة- التي كان يعالج بها القضايا العامة الكبرى، حين يستدعي الأمر المعالجة الحاسمة السريعة. ومثلها –خطب- الخليفة أبي بكر، وخطب الخليفة عمر.. وكلها خُطبٌ تُغطِّي حِقبةً زمنية طويلة تتألف من عشر سنوات أيام الرسول e، وسنتين أيام أبي بكر، وعشر سنوات أيام عمر، أي ما يزيد على (1500 خطبة). وجميعها خُطبٌ تنصبّ على شؤون الاجتماع والسياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين فئات المحكومين أنفسهم، فأين هذه الخطب الجامعة؟ وهل استعصى جَمْعُها على رجالِ الحديث الذين دَوَّنُوا الأحاديثَ التي تَناولَتْ حياةَ الرسول e، وتفاصيلَ علاقاته الخاصة مع زوجاته وأسرته؟.

لماذا لمْ نَتسلَّمْ مِن هذه الخُطب إلا نُتَفاً وإشاراتٍ تاريخية؟! إنَّ التفسير الوحيد الذي نُرجِّحه في ضوء مواقف معاوية مع أمثال عبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنهم)، ومواقف الحجاج الثقفي مع أمثال سعيد بن جبير، وإعدامه عشراتِ العُلماء، ومئات المُعترِضين على السياساتِ المُطْلَقة لبني أُمية، ومواقف أبي جعفر المنصور والمأمون من أمثال سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، هو أنَّ الخُلفاء الأمويين والعباسيين قد مَنعوا رواية هذه الخُطَب وتدوينها، وحاربوا التحدُّثَ بها وانتشارها، لِمَا فِيها من تقريرٍ لمبادئ الشُّورى –وليس الاستشارة-، وحُكمِ المؤسسات ورقابةِ الحاكمِ ومساءلته ومحاكمته، وإنْزال القصاص به، ولِمَا فيها من تَعريضٍ وتنديد بسياسات المُلك العَضُود في الحُكْم والمال والإدارة، وهو ما اتَّصفتْ به أنظمةُ الحُكم الأموي والعباسي التي استمدَّت مفاهيمَها وتطبيقاتِها من تقاليد العَصبية القَبلية العربية، ومَزَجَتْه بما رَاقَها من تقاليد الكسروية الفارسية والقيصرية الرومانية([69]).

واستمرَّ مسلسلُ هيمنة رِجال المُلك والقوة على رِجال الفقه والفكر، وتَعاظَمتْ رِدة القِيم السياسية من الدَّوران في فَلك (أفكار الرسالة) إلى الدَّوران في فَلَكِ (أشخاص) القوة وأصحاب النفوذ، فصارت "القوة فوق الشريعة"، و"التسلط" فوق "الحرية"، و"الحُكم المطلق" فوق "الشورى"، و"التملُّك الفردي" فوق "مِلكية الأمة".

ولقد أدَّى هذا التحوّل في اندحار "فقهاء الرسالة" إلى ظهور فقهاءِ الملوك والسلاطين وازدهار مكانة الشعراء والمدَّاحين الذين أشادُوا بانفرادِ "أشخاص" الحاكِمِين بالنفوذ والتصرُّف، وأسبغوا الكمال والعِصمة على أفعالهم وسياساتهم.. الأمْر الذي بَذرَ بُذور ردود الفعل العنيفة التي تَلت وأفرزت "قِيم كُفر الحرمان" التي جَسَّدتها فلسفاتُ الزندقة والحركات الباطنية. ولمّا كان تدوين التاريخ الإسلامي قد بدأ خلال هذه الفترة –فترة الدوران في فلك الأشخاص بدل الأفكار- فقد جَرَتْ كتابةُ هذا التاريخ على أساس أنَّه تاريخ عائلات وأشخاص، لا تاريخ فكرة ورسالة، وما زال قارئو هذا التاريخ لا يتبيَّنون عُمقَ الشرخ الذي أحدثه الدوران في فَلك الأشخاص بدل الأفكار في كتابة هذا التاريخ وتصنيفه.

ولعلَّ من الإنصاف أن نقول: إنَّ هذا التحوُّل لَمْ يَحدث بسهولة، وإنما رافقتْه مقاومةٌ شديدة من جِيل الصحابة والتابعين الذين كانوا يَدورون في فَلك أفكار الرسالة الإسلامية.

وخلال هذه المقاومة قدَّم المقاومون تضحياتٍ هائلةً في الأنفس والمُقدرَّات المادية والاجتماعية، ومثال ذلك التضحيات التي قدَّمها على بن أبي طالب وولداه الحسنُ والحسين، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وفقهاء التابعين من أمثال سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك وغيرهم.

ولكنْ.. عدم اكتمال –التحول النفسي- في الأقطار المفتوحة، خاصة الشام والعراق ومصر، جَعل سكان هذه الأقطار يَدُورون في فَلك "الأشخاص والأشياء" أكثر من الدوران في فَلك "أفكار الرسالة"، ولذلك وَالَوْا – طُلقاء مكة وثقيف - وساعدوهم في الوصول إلى قيادة الأمة الإسلامية، مُكرِّسين بهذه المساعدة المرض الذي نَزل في الأمة الإسلامية حين انتقلت من الدَّوران في فَلك "أفكار الرسالة" إلى الدوران في فَلك "الأشخاص" الذين يَملكون القوة والممتلكات، وفَتحوا البابَ للشكل الثاني من المضاعفات وهو الدوران في فَلك أشخاص "العشيرة" ونُظرائها كالطائفة والمذاهب.([70])

قلتُ: إنَّ ما ذَكَره الدكتور ماجد الكيلاني جَدير بالدراسة، وهذا لا يَقدح في فَضْلِ الدولة الأموية وأنَّها دولة الفتوحات، ولا يَلمز الدولة العباسية وهي دولة العلوم والمعارف، ولكن.. لا يُنكر أحدٌ أنَّ تراجعاً حَدث أدَّى لزوال الدولة الأموية، ومجيء الدولة العباسية التي ذهبتْ أيضاً لأسباب لا تَخفى على باحثٍ، ولا تغيب عن دارسٍ، مما أدَّى إلى سَحْقِ دولة الخلافة على يد التتار 656هـ، ولو رَجعْنا إلى التاريخ لَعَلِمنا أنَّ الأمة تُؤْتَى دائماً من الداخل، وأنَّ الغزو الخارجي لا ينتصر إلا بسببِ فوضى داخلية، وانتكاسة في القيم الإسلامية..{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}([71]).

وأقولُ مرةً أخرى: كيف يمكن لخطيبٍ يحترم نَفْسَه، ويُقدِّر عقول المستمعين والمُشاهدين أنْ يفيد الناس في عشر دقائق، أو ربع ساعة مثلاً، تحت عنوان: "قِصَر الخطبة من السُّنة"، فماذا نقول والعراقُ يَنزف، وتُستباح أرضه وتُنتهك أعراضُه، وتُنهب ثرواته، وتتسع الفجوة بين مواطنيه وسكانه؟!

ماذا نقول وأفغانستانُ تَحترق وتَشتعل ناراً على يد الصليبيين الجُدد محاولةً منهم في فَرْض سياسةٍ أمريكية وغَربيةٍ ظالمة، حيث إنَّ البلد الإسلامي استعْصَى على التنصير خلال قرون، وأذلَّ الشيوعيين في العصرِ الحديث، فلا بُدَّ أن يدفعَ الثمنَ غَالياً (وفْقَ السياسة الأمريكية المُتجبِّرة)، والثمنُ هو دِينه وقِيَمه وأخلاقه واعتراضه على سياسةِ الظُّلم الأمريكية للعالَم الإسلامي؟.

ماذا نقول في خطبة الجمعة وفلسطينُ أرض الرباط تتمّ عليها مؤامرةٌ بإحكامٍ، وتَسْرِي عليها سياسةٌ ظَالمة لا تَعرف العدالةَ في الأحْكام، والأقصى أسيرٌ يُهدَّد بالهَدم، والأسرى بالألوف يتعرَّضون للموت كل لحظةٍ، واللاجئون بالملايين يَرمقُون وطنَهم العزيز الذي يتاجر به كثيرون، والمنافقون يستغلُّون كلَّ الظروف لِوَقْفِ كلَّ تَغييرٍ وإصلاح؟.

فهل يستطيع الخطيب –إذا أرادَ أن يكون صَادقاً- أنْ يَبتعد عن هُموم الأمة وآلامها، ولا يتحدَّث عن فقرائها ومَنْكُوبيها؟ هل يُعقل أنْ يَصرخ أحدُهم حَول بِدعة مَسْحِ الرَّقبة، ولا يَصرخ حَول جَريمةِ قَطْعِها ظُلماً.. وترى بعضَهم يَصْرخ حول الاعتداء على مساجد السنَّة في العراق، وقَتْل العُلماء في بلادِ الرافدين.. وهذا لا غُبار عليه، بل نُقدِّر كلَّ غَيرةٍ على هذا الدِّين، وكلَّ كلمةٍ لنصرة المَظلومِين، والإسلام يحرم العدوان على أمكنه العبادة جميعاً دون استثناء .. لكن.. أليس مَسجد الهِداية مسجداً لأهل السُّنة.. فلماذا لَم تتحدَّثوا عن العدوان عليه؟ أليست الجامعة الإسلامية جامعةً لأهل السنَّة، لماذا لم تستنكروا إحراقها، وكثير منكم يتعلَّم فيها؟! أليس الدكتور حسين أبو عجوة، والقاضي بسام الفرا، والشيخ زهير المَنسي (إمام مسجد الهداية)، والشيخ محمد الرفاتي (إمام مسجد العباس)، وآخرون.. الذين قُتلوا ظلماً بأيدي مَنْ تَعْرفون، أليسوا مِن أهلِ السُّنة، فأين غَضبُكم لهؤلاء؟! أليس صعودُ الإسلاميين إلى سدّة الحكم عن جدارةٍ واستحقاق، أليس نِعمةً، فلماذا لا تذكرونها؟ ألمْ يَقُل اللهُ تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}([72])، فهل النِّعمةُ قاصرةٌ على طَيِّبِ الطعام ولذيذِ الشراب، أَمْ إنَّها عامةٌ تشمل كلَّ نِعمة؟ ومِن أعظم النِّعَمِ علينا أنْ يُوجدَ ناسٌ يَحْفظون عَقائِدنا ويَسْعَون إلى تَحكيمِ شَريعتنا، ويَحْرُسون شعبَنا ليلَ نَهار.. يا هؤلاء.. إنَّ السُّنة ليست قِصَرَ الخُطبة فقط!، إنَّما هي الصَّدْعُ بكلمةِ الحقِّ، وفَضْحُ المُنافِقين، وكَشْفُ زَيْفِ المُزوِّرين، ورَدُّ الظَّالِمِين إلى جُحورهم بالحُجج البَليغة المؤثِّرة التي تجعلهم يُفكرون كثيراً قبل أن يمسّوا مُسلماً بِسُوء.

إنَّ السُّنة أنْ يكون عُلماء الأمة وخُطباؤها حماةً لهذا الدِّين، ونُوراً في طريق الظُّلمة التي يسعى كثيرون لِجَعْلِ الأمة تتخبط فيها.. إنَّ السُّنة أن يكون علماء الأمة، -وإن اختلفوا فيما بينهم قليلاً- أن يكونوا يداً واحدةً على مَنْ عَادَاهم، وضِدَّ مَنْ يقف أمام المشاريع الإسلامية في بلاد الإسلام هنا وهناك.. إنَّ السُّنة أنْ يَتشبَّه الدعاةُ بِمَن يتحدَّثون عنهم على المنابر من الخلفاء الراشدين، والعُلماء الربَّانيين، والخطباء الناجحين الذين رَفَضُوا التقاطَ الحَبّ وقد ألقاه الحُكَّامُ والمُلوك إليهم، وفَضَّلُوا أن يكونوا ورثةَ الأنبياء فِعلاً، لا فِي حُسْنِ ترتيل القرآن وحَسْب، إنَّما في حُسْن عَرْضِ القضية الإسلامية العادلة، وفي نُصرة المظلومِين، وفَضْح خططِ المَاكرِين الذين يُريدون سُوءًا بهذه الدِّين العظيم.

وظيفة العالِم لدى الحاكم ليست مُبرراً للسكوت:

يُحاول بعضُهم أن يلتمس الأعذارَ لكثيرٍ من العُلماء والدعاة في سُكوتِهم عن كلمة الحقِّ، وعَدَمَ نُصحهم للحاكمِ الذي لا تَخْفى تجاوزاتُه على أحدٍ، ولا تَغيب مُخالفاتُه على إنسانٍ، تحت عنوان "الحِاكِم وليّ النعمة" وهو يَمْلك المُرتَّبات، فبإمكانه أنْ يَحبسها، وبمقدوره أن يُطْلِقَها، وتحت هذا المنهج السقيم أُلجمَ العُلماء، وتحدَّثوا فيما لا ينفع ولا يفيد، وهذا الكلام لا يَصمد أمام التحقيق، فإنَّ مُهمة العالِم أنْ يَحفظ آخرةَ السُّلطان والحاكِم، إضافةً إلى حياتِه ودُنياه، بِقَول كلمة الحقِّ، ليكون عالِماً ربَّانياً بالفِعل، لا.. ممَّن يَدور في فَلكِ السُّلطان والحاكِم طَمعاً بما في يده مِن مالٍ وجاهٍ، وكلُّ العلماء الربَّانيين الذي أصبحوا كالنجوم في السماء دَخلوا التاريخ بِزُهدهم بما في يَد المَلِك، فالتفَّت الأمةُ حولهم، وكثيرون هُم العُلماء الذين دَعَمتْهم السُّلطة فَلَمْ تَصل كلماتُهم إلى مرادها، بل زلَّت مواعظهم عن القلوبِ كما يزلّ الماء عن الصَّفا، وكثيرون أيضاً هم العُلماء الذين قَتَلتْهم السلطة فأنَارتْ كِلماتهم -باستشهادهم- الدروبَ المُظلمة، فكانوا أحياءً وهُم مَوتى، وكانوا دعاةً وهُمْ مَقْبورون، لِنُدرك أنَّ الأمة هي التي تصنع العالِم ولَيست السلطة.. وأَذْكُر في هذا المَقام العالِمَ الجَليل محمد بن محمد بن حمزة الفناري، الذي ردَّ شهادة السلطان لتَرْكِه صلاةَ الجماعة. وُلد سنة 751هـ، وارتحلَ إلى مصر، ورَجع إلى الروم فوليَ قضاء بروسا، وارتفع عند ابن عثمان جداً، وحلَّ عنده المحلّ الأعلى..

(قال ابنُ حجر: كان عَارِفاً بعِلم العَربية والمَعاني والبَيان والقرآن، كثير المُشاركة في الفنون، وكان حَسَن السَّمْت، كَثير الفَضل والإفضال. ولمَّا دَخل القاهرةَ يُريد الحجَّ اجتمع به فضلاءُ العصرِ وذَاكَروه وشَهِدوا له بالفضيلةِ ثُمَّ رجع. ومِنْ تَصلُّبِه في الدِّين وتثبُّته في القضاء أنَّه ردَّ شهادةً من السلطان في قضيةٍ، فسأله السلطانُ عن سبب ذلك، فقال: إنَّك تارك للجَماعة.. فبنى السلطانُ أمام قَصره جَامعاً، وعيَّن لِنَفسه فيه مَوضعاً ولَمْ يَتْرك الجماعة بعد ذلك([73]).

فلله درّ هذا العالِم الصادعِ بالحقِّ، مع ما فيه مِن التقلُّب في نِعمة سُلطانه، التي سمعتَ بعض وصْفها، ورُبَّ عالِم لا يَقدر على الكلمةِ الواحدة في الحقِّ لِمَنْ لَه عليه أدنى نِعمة مخافةً من زوالها. بل رُبَّ عَالِم يمنعه رجاءُ العطية ونَيل الرتب السنية عن التكلُّم بالحق، ولم يكنْ بيده إلا مُجرد الأماني الأشعبية. ورَحِم الله هذا السُّلطان الذي سَمِع الحقَّ فاتَّبَع، ولَم تصدَّه سَوْرة المُلك، وما هو فيه من سلطان الذي كاد يطبق الأرض عن قبول ذلك، وهذا السلطان هو السلطان بايزيد بن مراد).([74])

قلتُ: فكيف لو رأى الشيخُ الفناري حُكاماً لا يُصلُّون ألبتّة، ويَجهلون الشريعةَ مُطلَقاً، ويُحاربونها بكلِّ وسيلة، ويَجعلون أمام تطبيقها عقباتٍ لا تُوصف شدةً وصلابة؟ كيف لو رأى ظُلماً وفَساداً ومَعاصي وآثاماً واعتقالاً للأبرياء وقهراً للمظلومين وتقريباً للمحاسيب وإبعاداً لذوي الكفاءات والمواهب؟!.

وخُذْ مثالاً آخر لشجاعةِ العُلماء والقضاة الذين يَتقاضَون مُرتباً من الخليفة، ولَمْ يَكُنْ ذلك مَانعاً لهم مِن أنْ يردُّوه إلى الحقِّ، حتى نُدرك هشاشةَ التبريرات التي يَسوقها كثيرون لِمَنْ يَكْتُمون كلمةَ الحقّ، ويَستجيبون للحاكم في خَطئِه وصوابه.. (حُكي عن أبي يوسف –رحمه الله- أنَّه أُشْهدَ عنده أميرٌ من عُظماء جيش أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان مِنْ أقربائه، فَلَمْ يَقْبلْ شَهادَته، فَشَكى إلى هارون، فقال هارون: لِمَ رَدَدْتَ شهادتَه؟ قال: لأني سمعتُه يوماً بين يديك.. يقول: أنا عبدُ أمير المؤمنين، فإنْ كان صَادقاً؛ فلا شهادة للعبد، وإنْ كان كاذِباً فلا شهادةَ للكاذب.. فقال هارون: إنْ شهدتُ؛ فهل تَقبل شهادتي؟ قال: لا. فقال: ولِمَ؟ قال: لأنَّك تتكبَّر على الله، فلا تَخرج إلى الجماعة، ولا تُصلِّي مع عامة المسلمين، وهذا تكبُّر على الله، ولا يليق بالعبدِ هذا.

فتابَ هارونُ على ذلك، واتَّخذ مَسجداً للعامة على بابه، وكان يخرج إليه عند كل صلاة).([75])

إنَّ ما سبقَ يدل على صلاحِ العلماء والأمراء معاً، وفيه برهانٌ على مكانةِ العِلم والقضاء في المجتمع الإسلامي الناجح، وجديرٌ بعلماءِ هذا الزمان، وقُضاة هذا العَصر أن يتشبَّهوا بِمَنْ سَبَق، وأنْ يَقْتَدوا بالعُلماء المُخْلِصِين هذه الأيام، الذين يَصْدَعون بكلمةِ الحقِّ، لأنَّها مِن صَميم رسالتهم، ومن أصْلِ واجباتِهم.. ولنَا أنْ نتصوَّر ما حلَّ بنا نتيجةً لضَعفِ القُضاة، وخَوفهم الشديد، وحِرصهم على المال، وتحكُّمِ أجهزةٍ أمنية بِهم، حيث أصْبَحت القوةُ فوق القانون، ممَّا أدَّى إلى فَوضى لَمْ يرَ المجتمَعُ الفلسطيني لها مَثيلاً، ولقد جَنَى المُتنفِّذُون والمُتسلِّطُون على القانون، جَنَوْا على أنْفُسِهم وعلى المُجتمع، ونَرجو أنْ لا تَعود تلك الأيام السوداء، وأنْ يُصبح القانون فَوق القوةِ، وفوق العائلية، وفوق الفصائلية والأحزابِ جميعاً، عند ذلك.. يُمكن أنْ يَرتقي المجتمعُ ويتقدَّم، ويسمو وينهض، وتَرْسخُ قواعدُه بعدما قَوِيَتْ عقائدُه، وظلَّلتْ شريعتُه الأمَّةَ بجمالِها وكمالها وجلالها، لِنَكُون جميعاً عبادَ الله إخواناً. و(أتمنَّى ألا يعمل بالدعوة إلا مَن يتصف بالإخلاص والذكاء، فالغبيُّ عدوّ نَفسه، والمنافق لا يُقبل منه الحق، لأنَّ رائحة الحقِّ في فَمه رديئة).([76])

زوروا موقع المسجد على الانترنت: www.belalmo.blogspot.com

نظِير خَليل اللوقة - إمَام مسجد بِلاَل بن رباح - رفح - تل السلطان – 15 شوال 1428هـ - 26/10/2007م.

فهــرســــت

المــوضـــــــــــــــــوع
الصفحة
الكلمة وتأثيرها..
2
قوة الخطبة وجزالة أسلوبها وعمق موضوعاتها.
5
الصراحة والوضوح في الدعوة، لا يتناقض مع الحرص على الوحدة.
8
قيمة الإمام وأهميته.
10
منزلة الأئمة.
13
شيخ الأزهر في عصر ازدهاره.
14
صفات الخطيب.
16
الخطيب القدير.
18
وقفة مع قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً}.
20
خطأ الخطيب!!
26
الشيخ عبد القادر الجيلاني نموذج للداعية الناجح الذي يحمل هموم الأمة..
28
حارُّ العاطفة لا حادَّ الطِّبَاع.
28
معرفتُه لهدفه.
29
حبُّه للوعظ.
29
حِرصُه على أُمته.
29
نَقدُه للتعصُّبِ المَذهبي.
30
حملتُه على علماء السلاطين.
31
تحذيرُ طلاب العلم من الاغترار ببعض العلماء.
31
نقدُه.. للولاة والمُوظَّفين.
33
مواجهته الخليفةَ مِن عَلى المنبر.
33
حملتُه على الأخلاق الاجتماعية السيئة.
34
سيفٌ على النفاق.
34
نُصرةُ الفقراء والمحتاجين.
35
رُوحُ علمائنا تَسْري فينا..
37
قِصرُ الخطبة وطُولها..
41
وظيفة العالِم لدى الحاكم ليست مُبرراً للسكوت.
48





([1]) سورة الكهف:29
([2]) سورة يـس:20
([3]) سورة غافر: من الآية28
([4]) أشواك في الحقل الإسلامي: د. عبد الرشيد صقر، ص44
([5]) للشاعر: يوسف العظم، من كتاب: شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: أحمد الجدع، حسني جرار، الجزء الرابع، ص12 ،13
([6]) الصحفي مصطفى أمين، فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام، أبو عبد الفتاح علي بن حاج، ص103
([7]) هذه مبالغة من الشاعر حول تأثير شعره وشدته على الظالمين، لا نؤيدها، فشدة سكرات الموت لا تُوصَف.
([8]) للشاعر محمد محمود الزبيري، من كتاب شعراء الدعوة الإسلامية (مصدر سابق)، 1/15
([9]) سورة آل عمران:103
([10]) سورة آل عمران:100
([11]) سورة البقرة:191
([12]) سورة النساء:138،139
([13]) إحياء علوم الدين، الغزالي 2/340.... e: في جهنم وادٍ، في الوادي بئر يقال لها هبهب، حق على الله أن يسكنها كل جبار. أخرجه الحاكم في المستدرك
([14]) المصدر السابق: 2/342
([15]) الأزهر إلى أين: د. عبد الودود شلبي، ص 133، 134
([16]) المصدر السابق: ص113
([17]) المصدر السابق: ص135
([18]) الأزهر إلى أين (مصدر سابق): ص23، 24 نقلاً عن النهضة الإسلامية المعاصرة، د. محمد رجب البيومي 2/9، 10 طُبع بمجمع البحوث الإسلامية.
([19]) الأزهر إلى أين (مصدر سابق): ص21، 22
([20]) خطب الشيخ القرضاوي: إعداد الشيخ خالد السعد ج1 ص10
([21]) سورة الأنعام:162
([22]) سورة الصف:2،3
([23]) سورة البقرة:44
([24]) خطب الشيخ القرضاوي (مصدر سابق): ص10-12
([25]) المدنف: الذي لازمه المرض.
([26]) هكذا حدثنا الزمان: د. عائض القرني، ص232، 233
([27]) سورة طـه:الآية44
([28]) سورة طـه:الآية44
([29]) سورة هود:52
([30]) سورة هود:35
([31]) سورة الأنبياء:54
([32]) مسند الإمام أحمد، كتاب المكثرين من الصحابة، ح6234
([33]) سورة طـه:43،44
([34]) سورة الشعراء:18-33
([35]) سورة الإسراء:101،102
([36]) سورة المائدة:67، 68
([37]) سورة الكافرون.
([38]) من كتاب زهر البساتين من مواقف العلماء والربانيين، جمع وترتيب: د. سيد العفاني، 1/87-91، ط2،2004م دار العفاني نقلاً عن: الإسلام بين العلماء والحكماء ص171
([39]) الفتح الرباني: الجيلاني، ص295
([40]) المصدر السابق ص239
([41]) المصدر السابق ص 27
([42]) المصدر السابق ص297
([43]) المصدر السابق ص28
([44]) المصدر السابق ص162
([45]) المصدر السابق ص289
([46]) كان قد أسَّسها الشيخ أبو سعيد المخرمي في باب الأزج (حي من أحياء بغداد)، فلما تُوفِّي آلتْ إلى تِلميذه عبد القادر، فَعمد إلى توسيعها وإعادة بنائها، وصارت منسوبة إليه.
([47]) المصدر السابق 202
([48]) المصدر السابق ص173
([49]) المصدر السابق ص42
([50]) المصدر السابق 245
([51]) المصدر السابق ص15
([52]) المصدر السابق ص246
([53]) وفي هذا رسالة لمن يستجيبون لحاكم أو مسؤول في معصية الله، ولعل الذين يتركون العمل والمشافي والجرحى ينزفون، والمرضى يشكون.. لعلهم يعتبرون.
([54])  المصدر السابق: ص33
([55]) المصدر السابق ص113
([56]) ابن الجوزي المنتظم 10/119
([57]) مرآة الزمان: سبط ابن الجوزي 8/265 ؛ قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر: محمد بن يحيى التادفي، ص6
([58]) الفتح الرباني (مصدر سابق) ص98
([59]) المصدر السابق ص108
([60]) المصدر السابق: الصفحتان 7، 22
([61]) المصدر السابق ص103
([62]) المصدر السابق 108
([63]) الفيوضات الربانية: إسماعيل القادري، ص35 ،37
([64]) قلائد الجواهر (مصدر سابق) ص8، 17
([65]) مسالك الأبصار: ابن فضل الله العمري، 1/104
([66]) العيَّارون: جمع عيَّار، وهم قوم كثيرو التجول والطواف، والذين يترددون بلا عمل..
([67]) المسالحة: جمع مَسْلَحة، وهًم قوم ذوو سلاح يسيئون استخدامه..
([68]) قلائد الجواهر (مصدر سابق) ص19
([69]) تم تدوين خطب الخليفة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- من قِبَل المعارضة للحكم الأموي، ولعل أهمية الخطب المشار إليها تستحق التنقيب في المخطوطات الإسلامية المتناثرة في مكتبات العالم والتي لم يُطبع منها أكثر من 9%، فلعلنا نعثر على شيء من الخطب المذكورة.علاه تست
([70]) أهداف التربية الإسلامية: د. ماجد عرسان الكيلاني، ص394-396
([71]) سورة آل عمران: من الآية165
([72]) سورة الضحى:11
([73]) ليس معنى ذلك أن تُردَّ شهادة المسلم المقصِّر في صلاة الجماعة، وإنما هي رسالةٌ تُوضِّح رقيّ المفاهيم في ذاك العصر، وتُؤكِّد أهميةَ صلاة الجماعة، وتُظْهر صراحةَ العلماء وشجاعتهم، وصفاتِ المجتمع الذي يعيشونه ويستظلُّون بظلِّه.. وأصبح كثيرون في عصرنا هذا لا يَعْرِفون من الإسلام إلا اسْمَه، ولا مِن القرآن إلا رَسْمه، وهُمْ مُصرُّون أن يكونوا قِمةً في الإسلام والوطنية، والحِرص على المجتمع!.
([74]) زهر البساتين (مصدر سابق): 1/396، 397 نقلاً عن البدر الطالع للشوكاني (2/266-269).
([75]) صفحات مشرقة من حياة السابقين: نذير محمد مكتبي، ص: 269، نقلاً عن محاسن الإسلام، للإمام أبي عبد الله البخاري، ص: 113، 114.
([76]) هموم داعية: الغزالي. 


Unknown

Unknown

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.