أخبار المسجد
recent

الحركة الاسلامية والسعي الى اقامة الخلافة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة الإسلامية والسعي إلى إقامة الخلافة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله.. أما بعد..
مقدمة:
إن البشريةَ في حاجةٍ إلى هذا الدين العظيم، وقد أفلستْ الراياتُ والشعاراتُ واللافتات، التي أُنفقت عليها المليارات، فكانت النتيجةُ حروباً وقتلاً وأمراضاً وفقراً وتخلفاً وضياعاً، وهذا في ميزان الله عدلٌ رباني، لأنَّ كلَّ أمةٍ تخرجُ على المنهج ولا تلتزم به، وتجعل الدنيا غايتها ومحطَّ رحالها، لابد أن تدفع الثمنَ غالياً .. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }طه 124-126
ولم يكتفِ كثيرٌ من البشر بالإعراض عن المنهج الرباني؛ بل حاربوه ليلَ نهار، في السرِّ والإعلان، ومكروا به وكادوا له، وقتلوا شبابَه ونساءَه وشيوخَه، ومزّقوا المصحفَ الشريف، واعتدَوْا عليه بصورٍ تقشعرُّ منها الأبدان.. فهؤلاء عُميٌ في الدنيا، وإن كانوا مبصرين.
* فكيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى الحق، ويشاهد الصدق.
* كيف لا يكون أعمى من لا يرى جمالَ الشريعة في القرآن الكريم، وهي في حفظ الله –عز وجل- أبقى من السماء وأثبت من الأرض..
* كيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى عظمةَ العطاء عند المسلمين، وجلال الإنفاق عند المؤمنين ؟
* كيف لا يكون أعمى مِنْ لا يرى جمالَ شبابنا ووقارَ نسائنا وعفّةَ بناتنا ؟
* كيف لا يكون أعمى منْ لا يرى مساجدَنا وقد عمرها الراكعون الساجدون، القانتون المخبتون، الداعون ربَّهم وله متذللون ؟
* كيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى جلال شبابٍ مكتهلين في شبابهم، يحفظون كتاب الله عز وجلّ في مراكز التحفيظ المنتشرة هنا وهناك، وكأنهم يستعدّون لمرحلةٍ قادمةٍ من الصراع، ضد الباطل وجنده، والنفاق وأهله، والشرك وأتباعه، حيث إن المرحلة القادمة هي مرحلة الإسلام العظيم، ومرحلة الخلافة الراشدة التي ستقوم في الأرض، وثمَّ إرهاصاتٌ مدعومة بأحاديثَ نبوية شريفة، أن الخلافة في هذه المرحلة ستكون في بيت المقدس –بإذن الله-، وما الحملةُ ضد المسلمين والمشروع الإيماني العظيم في هذه الأرض، إلا للحيلولة دون إقامة الشرع الحنيف، وما السَّعيُ لإضعاف الحركة الإسلامية إلا بسبب سَعْيها الهادئ المستمر الدائم، لأسلمة المجتمع، حيث تسير بخطى مدروسة، وخطوات ملموسة آتت أُكُلها ضعفين.
* كيف لا يكون أعمى منْ لا يكون مع الصادقين وهو يراهم في المساجد والجامعات، والجوامع والكليات، ويراهم في جماعاتٍ إيمانية، وخاصة في الحركة الإسلامية التي تمثّل وسطيةً واعتدالاً، فابتعدت عن التطرف والغلوّ، ونأت عن الميوعة والتخاذل، فهي أعدل الجماعات الإسلامية، وليس هذا من باب المديح (الذي يستحقونه) ولكنه من باب ذكر الحقيقة التي سَبَقنا بها العلماء الأفاضل ذوو التجارب والاطلاع الواسع، وأكتفي بذكر كلمة الإمام محمد الغزالي –رحمه الله-: إنَّ الرسالة التي حَمَل لواءها "حَسنُ البنا" يجبُ أن تَبقى، وهي رسالةٌ يَستحيل أن يَكرهها مُسلمٌ، مُخلصٌ لله ورُسُلِه، ولا تَزال جماعةُ الإخوان بعد عشراتِ السنين من اغتيال "حسن البنا" أعْدَل الجماعاتِ الإسلامية.
ولا يزالُ التاريخُ الإسلامي المُعاصِر بحاجةٍ إليها، وأحسبُ أنَّ الذين يُهاجِمونها، إمَّا أبواقٌ لأعداءِ الإسلام، وإمَّا جهلةٌ لا يَدْرون شيئاً..([1])
وقال سيد قطب -رحمه الله- : إن دعوة الإخوان المسلمين، دعوة مجردة من التعقب()، وإن الذين يقاومونها هم المتعقبون، أو هم الجهلاء الذين لا يعرفون ما يقولون. ([2])
ويصف الإمامُ حسنُ البنا-رحمه الله- أصحابَه فيقول: وقد سهرت عيونهم والناس نيام، وشغلت نفوسهم والخليون([3]) هُجّع، وأكبَّ أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل، عاملاً مجتهداً، ومفكراً مجداً، ولا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده مورداً لجماعته، ونفقتَه: نفقةً لدعوته، ومالَه: خادماً لغايته، ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين عن تضحيته: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }الأنعام90 ([4])
كيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى جهادَ الشباب المسلم، ورباطَهم في سبيل الله، وسَهَرَهم على راحة الأمة، يُقدّمون دماءَهم الزكية-رخيصةً وهي الغالية- في سبيل الله ؟
كيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى أن المستقبلَ لهذا الدين، وأن العزّةَ لله ورسوله والمؤمنين ؟
كيف لا يكون أعمى مَنْ لا يرى أن سببَ العداء للحركة الإسلامية، هو التزامُها بدينها، وثباتُها على مبادئها، وتمسُّكها بعقائدها، ورفضُها أن تتنازل ... ومَا يتنازل عن دينه إلا غبيّ، ومَا يتخلى عن إسلامه إلا شقيّ، ومَا يحارب الإسلام إلا من غضب اللهُ عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً.
وكيف لا يكون أعمى مَنْ لا يدرك قولَه تعالى: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17
يقولون إنَّ المطر..
يترجم أشواقَه أنهرا..
يغوص ببطن التراب..
ليسكن قلب الثرى..
ويخرج ينبوع ماء نُمير..
يفيض عطاءً..
يعطّر هامَ الروابي..
ويُبهجها منظراً منظراً..
لقد جعل الله هذا المطر..
حياةً لكل النفوس..
مَشاعاً لكل البشر..
غديراً..لتشرب منه الزهور..
لتنقر منه الطيور..
لتعكس فيه الضياءَ البدورُ..
ليملأ تلك الجداولَ والأنهرا..
فيا مطراً غاب عن أرضنا أدهراً..
تحنّ إليك النفوس..
ويشتاق كلُّ الورى..
تعالَ إلينا..
تحنّ إليك ضروع اليباس..
تحنّ إليك البذورُ بكل التراب..
وكل ربوع اليَباب()..
لتنقذها من جيوش التراب..
وتغسل بالحبِّ وجهَ الثرى.. ([5])
الخلافة أمل المسلمين:
لقد كانت الخلافة الإسلاميةُ نعمةً من الله عز وجلّ، فهي التي توحّدت الأمةُ في ظلّها فيما مضى، وكانت الأمةُ بها مهيبةَ الجانب، ذات شوكة يرهبها الأعداء، واستطاعت دولةُ الخلافة الإسلامية أن تؤدّب المرتدين وأن تنشرَ الإسلامَ في ربوع العالمين، وأن تبني للعدالة صرحاً شامخاً، وأن تزيلَ عقباتٍ كالجبال أمام حرية الاختيار، فاختار الناسُ هذا الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ومَنْ لمْ يدخلْ عاش مطمئناً آمناً، له ذمةُ الله وذمةُ رسوله، يَحْرم الاعتداءُ عليه وعلى ماله، واستطاعت الخلافةُ أن تنشئ حضارةً عربيةً إسلاميةً، استوعبت كل طاقة، وانصهرت فيها كلَّ كفاءة، فكان الإبداعُ في كل شيء، في الدين والدنيا، واستغلّ المسلمون نِعمَ الله في الأرض، في سبيل دعوتهم ونَشْرِ إسلامهم وبَسطِ أجنحة السلام على ربوع الدنيا.
وبقدر التمسّك بالإسلام يكون الفوزُ والفلاح، وبقدر التراجعِ عنه يكون الخُسران والضياع، ولأسبابٍ كثيرة.. تراجعت دولةُ الخلافة شيئاً فشيئاً، ويبدو أن حالةَ الاسترخاء والاستسلام، من أشد الحالات فتكاً بالأمم، فتمزّقت دولةُ الإسلام رويداً رويداً، ورغم ذلك.. ما فتئت جيوشٌ من العلماء والتجارُ الفقهاء ينشرون الإسلام، وما ترك علماءُ الأمة التأليفَ والتصنيف، وبَثَّ الهمم في الأرواح لإعادة دولة الخلافة من جديد، حتى يبقى هذا المنهج حياً في النفوس، فلمعت أسماءُ العلماء والمجاهدين، وحملوا السيف في سبيل الله رب العالمين -وإنْ لم يكن هناك خليفة تُجمع عليه الأمة- فالعمر فرصة والمنهجُ الرباني أغلى شيءٍ لدى المسلم.
وعندما سقطت الخلافةُ في الأندلس كان صعودٌ في الشرق على يد العثمانيين، فكانت الخلافة العثمانية المباركة التي دكّت أسوارَ (فيينا) ونشرت الإسلام هنا وهناك، وحمت العالم الإسلامي من الغزو الصليبي لمئات السنين، وحدث التراجع لأسباب كثيرة، منها: أن العثمانيين أجادوا الجهاد وفي آخر عهدهم لم يجيدوا الاجتهاد، فكانت الثورة الصناعية في أوربا وقد غفلت عنها دولة بني عثمان، فكان التقهقر والتراجع أمام الأسلحة الحربية المتقدمة إضافة إلى تَركِ الدعوة إلى الله بمعناها الواسع والشامل، فلا يمكن أن تُحكم بلادٌ بالقوة دائماً، فكثيراً ما تضعف القوةُ، عندئذٍ يتراجع الناس إن لم يكونوا على الهدى وإلا، كيف نفسِّر مكوث العثمانيين مئات السنين في (صربيا) وفيما كان يُعرف بـ(الاتحاد اليوغسلافي) ولم يدخل أهلُها في الإسلام. ([6])
وتراجعت دولةُ الخلافة تراجعاً خطيراً على يد الماسونيين المنافقين الكاذبين الذين زعموا الحرص على الوطن فإذا هم أتباع جمعيات سرية تكيد لدولة الإسلام وتتظاهر بالدين، فلما ملكوا ظلموا، وألغوا الخلافةَ الإسلامية 1924 بالاتفاق مع الماسوني الكبير (أتاتورك) الذي كان دُميةً بيد الأوروبيين وكان بطلاً مزيفاً حتى يستطيع تحقيق مآرب الأعداء، وكانت نكسةً في تاريخ الإسلام؛ بل كان بكاءٌ شديد وحزنٌ عميق على إسقاط الخلافة الإسلامية وطرد الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني –رحمه الله-.
ومع أن الخلافة كانت ضعيفة قبل (أتاتورك) وكان الاستعمار قد نهب كثيراً من أمصارها إلا أنها كانت عُقداً ينظِم حباتِ الشعوب، فلا حدود بين المسلمين، فقوّتهم تصبُّ في صالِحهم وصالح دينهم.
ولم يقف الأمرُ عند إسقاط الخلافة وحسب؛ بل كان ثَـمّ سعيٌ لإزالة هذه القضية من العقول ومن القلوب، وأنها من مخلفات الماضي، وأن التطور تجاوَزَها بكثير، وأن نسيم الديمقراطية يُغني عنها، فكان الغزو الثقافي، والمؤلفاتُ والصحفُ والمجلات التي تحارب الإسلام، وتشكك في كل اعتقاد، وتفسد كل صالح، وتخرّب كل عامر، وتعوّج كل مستقيم، وتَحرف كلَّ اعتدال، وتلوّث كلّ طاهر، وتطمس كل ماهر.
لكنْ.. ( من حكمة الله عز وجلّ أن يبعث في هذه الأمة الإسلامية كل مائة عام –كما قال رسول الله e - رجالاً يجددون للمسلمين شريعة الإسلام.. ويستنفرون هممَهم النائمة لتحيا.. وتعود إلى حياتها..بعد سُبات عميق .. ولتدعو الناس إلى دعوة الإسلام الحق، لتكون قوة مؤثرة، ضد كل التيارات الصليبية والاستعمارية واليهودية، التي اجتمعت كلها لمحاربة الإسلام بأخبث الوسائل، وبتخطيطٍ دقيقٍ بعيد المدى لإضعاف المسلمين ديناً ودولةً، وتفريغ الإسلام من مضمونه الحق ومبادئه القويمة، واستعمار هذه الدول الإسلامية والتحكم في كل مقوماتها، حكومةً وشعباً.
لقد أُلغيت الخلافةُ الإسلامية سنة 1924م، وتمزقت الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة، وقام الاستعمار الغربي ودُولُه الأوروبية لتغزو العالم الإسلامي وتستعمره فكرياً واجتماعياً وعسكرياً وسياسياً، منتهزةً فرصةَ الضعف والوَهَن الذي أصاب هذه الأمة بعد انحلال الدولة العثمانية، حتى إن هذه الدويلات كان يجافي بعضُها بعضاً ويعادي بعضُها بعضاً؛ بل ويقاتل بعضُها بعضاً، ويتنازعون على حدود موهومة صنعها لهم المستعمر الغاصب حتى يشغلهم عن أمور دينهم ورسالة إسلامهم، وكان ذلك هو الكارثة الكبرى التي حلّت بالدول الإسلامية حيث لم يعد الإسلام هو الهوية.. أو الانتماء.. أو التشريع.
وجاءت دول الاحتلال الأجنبي بالقوانين الوضعية بدلاً من الإسلام، وانبهرت الأمم الإسلامية بالحضارات الأوروبية، ومظاهر التمدن والحرية المطلقة وجلبوا إلينا النساء الكاسيات العاريات والمسارح والمراقص والملاهي الليلية، وخمورهم وملذاتهم، ونشروها في بلدنا، حتى وصلت إلى ريف مصر وجميع مدنه، وتدخّلوا بكل مقوماتهم في اقتصادنا، وأنشأوا البنوك والشركات والمؤسسات، وأقرضوا رجال العائلات الكبيرة أموالاً طائلة، وتحكّموا في المحاصيل الرئيسة في بلدنا مثل القطن، وأنشأوا المدارس والمعاهد العلمية والمراكز الثقافية حتى صارت وقفاً على الطبقات الثرية من الشعب، وسهّلوا لهم البعثات الخارجية إلى أوربا، وأصبح منهم طبقة الحكام والوزراء وأصحاب المناصب المرموقة.
ونجح هذا الغزو الاجتماعي والثقافي والسياسي، بما يحويه من مظاهر برّاقة خادعة محببة إلى النفوس، بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وشريعته وتقاليده وأحكامه.
وبالغت بعضُ الأمم الإسلامية في الإعجاب بهذه الحضارة الأوروبية الوافدة الجديدة، حتى أعلنت تركيا.. أنها دولة غير إسلامية، وفُجع الناس في (كمال أتاتورك) الذي كان أكبر عدو للإسلام والمسلمين، وتسبب في أكبر نكسة تاريخية للإسلام بمبادئه العلمانية.
ومن هنا.. انتصرت الحضارة الغربية.. انتصرت على الحضارة الإسلامية بكل مقوماتها في عقر دارها، وبنفوس أبنائها المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، ناهيك عن الاستعمار العسكري والوصاية على هذه الشعوب من خلال حكامها.
ومن هنا.. أراد الله –عز وجلّ- ولا راد لمشيئته- أن يحقق الأمل من خلال داعية يجدد لهذه الأمة دينها وعقيدتها وإسلامها.
وكان هذا الداعية الموهوب هو (حسـن البـنا) الذي بدأ دعوته وسنُّه اثنتان وعشرون سنةً، وسمّى دعوته "دعوة البعث والإنقاذ" وأنشأ جماعة الإخوان المسلمين" سنة 1928م
وبدأت دعوة بسيطة، ولكنها عميقة، وأخذت تنمو وتترعرع وتتكاثر برجال مؤمنين انضموا لها، بعد أن وقر الإيمانُ في قلوبهم، وصدق عملهم وجهادهم في سبيل الله. ([7])
قلتُ: فها قد رأينا أن من الأسباب الحقيقية لنشأة حركة الإخوان هو غيابُ الخلافة الإسلامية التي جعلت المسلمين أضْيعَ من الأيتام على موائد اللئام، وجعلت ثرواتِهم في جيوب غيرهم، وجهودَهم في مصلحة سواهم؛ بل أصبح كثيرٌ منهم بوقاً للأعداء، فقد أغرَوْهم بالمال والجاه والسلطان، فأصبحوا غربيين في العقول والأفكار، وإن كانوا شرقيينً في الألوان والأشكال، وهذا أخطر شيءٍ يصيب أمةً من الأمم، التي يهزمها العدوُّ هزيمةً نفسية، فيجعلها تحتقر ما عندها من حضارة، وتستخفّ بما لديها من تراث عظيم، فتلهث وراءه في صحراء قاحلة ليس فيها ماء، ولا زرع ولا نبات، إنما هي الشمس المحرقة والكثبان التي تتشكل كل يوم في حال.. وليس فيها إلا ضَنْك العيش، وسوء المنقلب.. ليس فيها إلا ثعالبُ ماكرة وذئاب تملأ الجو عواءً تثير الخوف وتنشر الرعب.
وفي خِضمِّ هذا، يظهر فارسٌ بسيفه، يعلو صهوةَ جواده، قد تسلّح بإيمانه، فصهل الفرسُ فهربت الذئاب، واختفت الثعالب، فقال: إن الرياض الخضراء بجواركم، وإن الجنات الفيحاء أمامكم، وإن الأزهار المختلفة من الصدق والأمانة وحُسن العهد والوفاء والإنفاق والعطاء لديكم، فكيف تذهبون إلى نار وأمامكم جنة ؟ وكيف تذهبون إلى لهيب أفكار من صُنْع إبليس وتدعون منهجاً ربانياً من صنع خالق الأكوان ومعلّم الإنسان؟
فاستجاب له كثيرون وتركوا الصحراء القاحلة وشمسها التي تلهب بسياطها الوجوه، فكانت النواة الصلبة للجماعة المباركة التي أدركت سرَّ وجودها في الحياة وثِقَـلَ المهام الملقاة على عاتقها، وكلما ازدادت الحركة الإسلامية فهماً لدينها، ازداد عداء كثيرين لها، وهذا من المفارقات.. (يقول الدكتور "ميتشيل" وهو أستاذ في جامعة "ميتشجن" في رسالته للأستاذية: إن فهم الإخوان المسلمين للإسلام، وحركتهم ونشاطهم، واتجاههم، هو سبب العداء الذي يلاقونه في الداخل والخارج).([8])
وهذا العداء ليس عجيباً ولا غريباً، فهو سنة الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }الفرقان31
والحركة الإسلامية تدعو أخواتِها في الجماعات الأخرى إلى التعاون والاتفاق، إن كان صعباً الاندماج والاتحاد (وليس بمستحيلٍ إن صدقت النيات) وليس من السهل –والعقبات كثيرة- أن تصبح الجماعات جماعةً واحدة بجرة قلم، لكننا آثمون جميعاً، إن جعلنا الخلاف سيد الموقف، وجعلنا النزاع بيتَ القصيد في حياتنا.
(.. وأنا أقول: تقارب، ولا وحدة .. لأني لا أنكر تعدد الجماعات العاملة للإسلام، ولا أطمع أن ينضوي الجميع في جماعة واحدة، يضمُّها تنظيم واحد، تحت قيادة واحدة، فهذا حُلُمٌ جميل، ولكن دون تحقيقه صعوبات لا يسهل تذليلها، إلا أن ينقلب البشر إلى ملائكة أولى أجنحة.
ولا مانع من التعدد إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تضاد وتناقض.
فجماعة تتخصص في تحرير العقيدة من الخرافة والشرك، وتصحِّح عقائد المسلمين وفق الكتاب والسنة.
وأخرى تتخصص في تصحيح العبادات وتطهيرها من البدع والشوائب وتفقيه الناس في دينهم.
وثالثةٌ تُعنى بمشكلات الأسرة والمرأة، والدعوة إلى الحجابِ الشرعي، ومقاومة التبرج والانحلال.
ورابعة تُعنى بالعمل السياسي، وخَوضِ معارك الانتخابات والوقوف في وجه الأحزاب العلمانية.
وخامسة تهتم بالعمل التربوي أو العمل الاجتماعي وتبذل فيه جهدها ووقتها.
وسادسة تعمل في هذه الميادين كلها، أو في مجموعة منها، حسبما يتيسر لها.
يمكن أن تعمل بعضُ الجماعات مع الجماهير، وبعضها الآخر مع المثقفين.
يخاطب الأولون العواطف، ويستثيرون مشاعر الإيمان، على حين يخاطب الآخرون العقول والأفكار، وبخاصة عقول أولئك المغزوين() بالثقافة الغربية بشقيها: الليبرالي والاشتراكي.
وهكذا تتنوع الجماعات، ويتنوع علمها وفق اهتمامها وما ندبت نفسها لخدمته، ومن تفرّغ لشيءٍٍ أحسنه. ([9])
قلتُ: ما أجمل قول الشيخ القرضاوي، وما أجدرنا أن نحسنَ فهمه والتعامل معه، فإذا كنا نتفق في الصلاة فنصلي معاً صفوفاً مستقيمة لا اعوجاج فيها، ولا خلل بين عناصرها، فلماذا لا نتفق على نصرة المظلوم ؟ ولماذا لا نتفق على إطعام الجائع وكساء العاري وتعليم الجاهل ؟
لماذا لا نتفق على وجوب نصرة فئة مؤمنة تواجه عدواً في الداخل والخارج ؟
فإذا كان قد وجب على فئةٍ مؤمنةٍ أن تنصر فئةً أخرى مؤمنة بُغي عليها من أختها، فمن باب أوْلى أن ننصرها إذا بُغي عليها من عدوّها الكافر.
(فإذا كانت النصرة حقاً مفروضاً لطائفة مسلمة مظلومة تبغي عليها طائفةٌ مسلمة أخرى، فكيف إذا كان الذي يعتدي عليها كافرين معتدين يريدون إهانةَ الإسلام وإبادة أهله واغتصاب أرضه ؟ ألا تكون نصرة المؤمنين المنكوبين هنا حقاً واجباً؛ بل أشد وجوباً؟) ([10])
أهمية الإمام العادل:
لقد بلغ من أهمية وجود الإمام العادل أن ذُكر في القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، وكان مدارُ الخلافة – في أزهى عصورها- على العدالة والإنصاف.
قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } سورة ص: 26
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل.. متفق عليه
وقالت الحكماء: إمامٌ عادل خيرٌ من مطر وابل، وإمام غشوم خيرٌ من فتنة تدوم، وما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.
قال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس، مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد؛ فالفسطاط: الإسلام، والعمود: السلطان، والأطناب() والأوتاد: الناس، ولا يصلح بعضُها إلا ببعض.
لا يُصلحُ الناسَ فوضى لا سُراة([11]) لهم            ولا سُراة إذا جهّالــهم سادوا
والبيــتُ لا يُبتنى إلا له عمــدٌ              ولا عماد إذا لم تُرسَ أوتــاد
فإن تجمّـع أوتـاد وأعمــدة                  يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا([12])
وإن الإمام العادل له منزلةٌ عند الله ومكانةٌ في قلوب الناس، فهي تلتف حوله لاستقامته واعتداله، والتزامه بالشرع وأحكامه، فعن أبي هريرة t قال: قال رسولُ الله r : (ثلاثةٌ لا يرد الله دعاءَهم: الذاكرُ اللهَ كثيراً، والمظلوم، والإمام العادل). حديث حسن: رواه البيهقي في شعب الإيمان
( وكفى منقبة وفضلاً للإمام العادل أن إجلاله من إجلالِ الله، وطاعته طاعةٌ لرسول الله r، قال رسولُ الله r: (مَنْ أجلَّ سلطانَ الله، أجله الله يوم القيامة). رواه الطبراني
وقال رسولُ الله r: (مَنْ أهان سلطان الله في الأرض، أهانه الله)  حسن: رواه الترمذي
وقال رسولُ الله r: (مَنْ أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأميرَ فقد عصاني). رواه البخاري ومسلم وأحمد
قلتُ: والذي لا يخفى على أحد أن طاعةَ الأمير مرهونة بطاعته لله ورسوله؛ بل ولا تناقض بين الاعتراف بأميرٍ ما وإنكار المنكر عليه إن خالف.
وينجح الإمام والسلطان والحاكم بقدر حبه لله ورسوله، والتزامه بطاعته، عندئذٍ تكتمل الحلقة، ويتم التفاعل بين القيادة والقاعدة، بين القمة والأمة، فتكون النتيجةُ عطاءً بلا حدود، وعمارةً بلا تخريب، وانسجاماً يؤتي أُكُله ضعفين في شتّى مجالات الحياة، ويسقط الإمام والسلطان والحاكم من عيون الناس عندما يسقط من عين الله -عز وجل-، وذلك ببعده عن المنهج الرباني والشريعة المباركة، فيصبح أولئك شرَّ الأئمة والحكام والسلاطين.
قال رسولُ الله r: ( خيارُ أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم). رواه مسلم عن عوف بن مالك
قلتُ: وعلم الله -سبحانه وتعالى- أنه يمهّد للخلافة في فلسطين.. بيت المقدس، فقد جعل قوماً من خيارنا، إن لم يكونوا خيارنا يتولون الأمور باحتضان الجماهير لهم، وعلم الله أننا نحبهم فيه، نتيجة لطاعتهم والتزامهم؛ ولأنهم من تربة صالحة، ونبتةٍ طيبة، وغَرسٍ مبارك.. ماذا تريد من قومٍ تخرّجوا من المساجد والجوامع، والجامعة الإسلامية والمعاهد القرآنية ؟
ماذا تريد من رئيس وزراء، هو إمام مسجد ويحفظ القرآن، ويُبدع في الخطابة والمحاضرة ؟
أما وعيه السياسي فحدّث عنه ولا حرج، وأما قبول الناس له في الداخل والخارج، فلا ينكر شمسَ الضُّحى إلا أعمى، ولا يجهل البدرَ ليلةَ التمام إلا فاقد البصر والبصيرة.
ومن هنا.. يصبح إيجادُ الحاكم المسلم فريضةً إسلامية، وضرورةً اجتماعية، وواجباً أخلاقياً، حتى تستقيم الأمور.
كيف يأتي الخليفة:
إنَّ إيجاد الخليفة لا يأتي بأمنية تختلج في الصدور، ولا يكون بخطبةٍ منبرية وحسب؛ فكيف يكون بموعظةٍ تستمر دقائق ؟! إنما يحتاج إيجادُه إلى جهد الجميع، لكنْ.. هناك خُطُواتٌ يجب القيام بها، تسبق وجود الخليفة، فقد مضى على سقوط آخر خليفة أكثرُ من ثمانين عاماً..
فماذا تفعل الأمة ؟ هل تنتظر دون سعيٍ لجعل المنهج حياً في حياة المسلمين ؟
هل تنتظر دون أن تمارسَ إسلامها في حياتها، جهدَ الطاقة وقدرَ الاستطاعة ؟
إن فعلت ذلك.. فسوف يتمكّن منها عدوُّها، وسوف تنسى الإسلام والإيمان، وتصبح كالنصارى الذين ينتظرون (المخلّص) والشيعة الذي ينتظرون (المهدي) الغائب في السرداب !!
وهذا لا يقوله عاقل، فقد وردت أحاديثُ نبوية تستشرف المستقبل، وتتحدث عن الغيب المشاهد بعد قرون من حيث أن الزمان سيخلو من خليفة وإمام يحكم المسلمين، ولقد انتبه العلماء إلى هذا، فنصحوا لنا وأرشدونا..
قال الجويني في (غياث الأمم 280) قال العلماء : لو خلا الزمان عن السلطان فحقَّ على قُطّان([13]) كل بلدة، أن يقدّموا من ذوي الأحلام والنُّهى، وذوي العقول والحِجى([14]) من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره.([15])
وقال أيضاً: ثم كلُّ أمرٍ يتعاطاه الإمام في الأموال المفروضة إلى الأئمة، فإذا أشغر([16]) الزمان عن الإمام وخلا عن كلِّ سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحقٌّ على الخلائق أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هُدوا إلى سواء السبيل وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عَسَرَ([17]) جَمْعُهم على واحدٍ استبدّ([18]) أهل كل صَقْع([19]) وناحية باتّباع عالِمهم، وإن كَثُر العلماء في الناحية فالمتَّبعُ أعلُمهم، وإن فُرض استواؤهم -وهو فَرَضٌ نادر لا يكاد يقع-، فإن وقع، فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم. ([20])
قال ابنُ حزم في المحلى (12/523) : إن لم يكن للناس إمام ممكَّن، فكل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ.
وهناك نُقولٌ أخرى مجموعة في بحث "صنيع أهل الإسلام إذا غاب الإمام.. خلاصة القول فيه: أنه لا يجوز الاعتذار بعدم وجود الإمام للقعود عن فريضة الجهاد؛ بل على المسلمين أن يختاروا مَنْ يصلح لهذه المهمة ولو كانت فيه بعض الذنوب.. كما نصَّ أحمدُ بنُ حنبل وغيرُه.([21])
قلتُ: وهذا ذاته الذي سبق ذكره هو ما تقوم الحركة الإسلامية، التي تسعى في كل مجتمع حلّت فيه أن تشعرَ المسلمين بأهمية الالتفاف حول العلماء، وأهمية الاستمساك بالمنهج وممارسته حتى لا تفقد الأمة شخصيتها فتذوب ذوبان الملح في الماء، أو تموت فلا تُبعث إلا يوم النشور.
العمل الاجتماعي وأثره في حماية الأمة في غياب الخليفة:
إن الأعمال الاجتماعية، تُعدُّ من أفضل الأعمال التي تحفظ عقائد الأمة، وتحببها في دينها، وتجعلها تُحسُّ بكيانها، وقَدْرها ومكانتها، ولتلك الأعمال مردودٌ حسن، وآثارٌ مشكورة في واقع الدنيا؛ بل تجعل الأمة، تتحابب وتتآلف، وتبعث فيها النشاط والحيوية، مستغلةً كلَّ لحظةٍ في خدمة هذا الدين العظيم، حمايةً للأمة الجريح من المنصِّرين الذين يستغلون الأعمال الاجتماعية، وتقديمَ المساعدات لزعزعة عقائد المسلمين، وجَعْلِهم يَحْيَون في تجاذبات؛ بل ربما شككتهم أعمالُ المنصِّرين في عقائدهم التي يحملونها، إذا رأوا تقاعساً من إخوانهم المسلمين، وتفانياً من الآخرين في خدمتهم ورَسْم البسمة على وجوههم، فيعتقدون أن دين أولئك خيرٌ وأفضل، ولقد نجحت تلك الأساليب في إخراج المسلمين من دينهم في بلاد شتّى، ومن لم يخرج عن دينه، عاش في قلقٍ ولم يعدْ يعتز بدينه؛ لأنه لا يرى له مدلولاً في دنياه، ولم يعد عليه بالنفع من إخوانه المسلمين الذين يتركونه فريسةً للجوع وصيداً للفقر.
ومن العجيب.. بل من مفاخر ديننا أن الإسلامَ ذكر الأعمال الاجتماعية وحثَّ عليها وأجزل ثوابَها، في القرآن المكيّ قبل قيام الدولة، وقبل قيام دولة الخلافة، ومن هذا المشهدُ القرآني العظيم من سورة الإسراء.. قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً، رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً،  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً،  وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } الإسراء: 23-39
فنحن أمام مشهد قرآنيٍّ عظيم، يتحدث عن برِّ الوالدين بعد التوحيد، ويتحدث عن الإنفاق والعطاء، ويتحدث عن حماية الأبناء، ويحذّر من الزنا والفاحشة، ويجعل الانتقام من الأبرياء جريمةً، وعظّم حُرمةَ النفس، وأمر بإيفاء الكيل والميزان، وأكّد أن وسائل الإدراك يُسأل عنها ابنُ آدم، وأن التجسس على المسلمين جريمة، وحذّر من الكبْر والتعالي على الناس.
ومشهدٌ آخر من سورة الأنعام وهي مكية بإجماع حيث يقول تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام 151- 153
والآياتُ واضحةٌ.. تتحدث عن نفسها، وهي أمورٌ اجتماعية بكل الموازين؛ بل من العجيب أن في سورة فُصِّلت -وهي مكية- وصف مولانا المشركين أنهم لا يؤُتون الزكاة: قال تعالى :{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }فصلت6-7 فجعل القرآن مَنْعَ المشركين الزكاةَ جريمةً تُضاف إلى كفرهم وشركْهم.. وأمثالُ ذلك كثيرٌ في القرآن المكيّ، ولك أن تنظر إلى صدر سورة (المؤمنون)..
لكن.. لا ينكر أحدٌ أن كثيراً من هذه الأمور رسخت قواعدها، واتسعت مدلولاتها في المدينة المنوّرة، فكان الحديث عنها وممارستها في مكة تهيئةً لنفوس المسلمين أن يكونوا على استعداد لمرحلة البناء والتعمير، وهذا ذاته الذي حدث عند الحديث عن اليهود في مكة ولم يكن ثم يهود، وكأن القرآن يُهيئ نفوسَ المؤمنين إلى صراع قادم مع اليهود في المدينة، فلم يكن غريباً على المسلمين سلوك اليهود في المدينة المنورة، فقد علموا أحوالَهم التاريخية، وعنادَهم نبيَّ الله موسى u وقصّ مولانا ذلك في سورٍ كثيرة.
ومن هنا.. انتبهت الجماعات الإسلامية وخاصةً الحركة الإسلامية، إلى أهمية العمل الاجتماعي، وكانت أستاذاً في ذلك، ونالت رضا الجماهير، وقَبولَ الشعوب، وأصبحت محطَّ أمانة أهل الخير من هذه الأمة.
ولقد ذكر علماؤنا ذلك وأكّدوه، وقد مارسته الحركة بفضل الله -عز وجل-.
(ولا بد للحركة الإسلامية أن تحدد لنفسها ميادين للعمل تخدم بها دينها وأمتها، وألا يستهلك العمل السياسي كلَّ جهدها ووقتها.
ومن ذلك: الميدان الاجتماعي الذي قصّر فيه المسلمون تقصيراً شائناً. واستطاع أعداؤهم أن يستغلوه لنشر أديانهم المحرّفة بين الجياع والمرضى والأميين والمشرّدين من أبناء أمتنا.
وهذا ما دعانا للمناداة بتكوين (الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية) التي تعمل بكل طاقاتها على توفير الغذاء للجائع، والكساء للعاري، والدواء للمريض، والرعاية لليتيم، والإيواء للمشرّد، والتعليم للجاهل، والتشغيل للعاطل، والتدريب للعامل، والمشاركة الجادة في تنمية المجتمعات من داخلها.
وقد رأينا إماماً مثل "حسـن البنا" يعطي العمل الاجتماعي من دعوته وحركته عنايةً بالغة، ويجعله أحد أهدافها الأساسية، وينشئ في كلِّ شعبةٍ قِسْماً للبر والخدمة الاجتماعية، مُهمته تنظيم فِعْـل الخير، والدعوة إليه على كل صعيد.
إن بعضَ الحركات أو الأحزاب الإسلامية تُحرّم على نفسها العمل لخير الناس أو مساعدتهم حتى تقوم الدولة الإسلامية المرجوة، فكل مهمتهم هو "الانتظار" على طريقة (انتظار المهدي) الذي تنشق عنه الأرض، أو تنفرج عنه السماء في يوم وليلة.!
و(مهدي) هؤلاء هو الدولة أو الحُكْم الإسلامي المنتظر، فهم واقفون في طابور الانتظار؛ بلا عمل يُذكر، حتى يتحقق موعدهم !!
حتى إن منهم من غلا، فقال: لا جهاد إلا تحت راية الدولة الإسلامية ولا دولة فلا جهاد، وبعبارة أخرى: تحت راية الإمام ولا إمام.!
ولا أمر بمعروف ولا نهي منكر إلا في ظل الدولة المنشودة.
وبقي عليهم أن يقولوا: لا صلاة ولا زكاة إلا بعد قيام الدولة!! ([22])
إن الناس يختلفون في طاقاتهم، ويتمايزون في عطائهم وإبداعهم، وكذا الجماعات، ومن هنا..يجب ألا نستهين بأي طاقة، ولا نحتقر أيّ عطاء؛ بل يجب على الجميع أن يجعل روافده تصبّ في نهر الإسلام العظيم. ( إن في كل جماعة مستوياتٍ متفاوتةً من الأفراد وقدراتٍ مختلفة، فبعضهم يبدع في المجال الفكري، وآخر يبدع في المجال الدعوي، وأخر لا يبدع إلا في المجال الاجتماعي، فلماذا لا توظف طاقات هذا النوع من الناس في خدمة المجتمع، وتخفيف المعاناة عن عباد الله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كربات الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.) ([23])
هل غياب الخليفة يمنع الجهاد في سبيل الله:
مما لا شك فيه أن وجودَ خليفةٍ يحكم الأمّة، ويلتف حوله المسلمون في شتى بقاع الأرض، نعمةٌ لا تُقدّر بثمن؛ بل هي من أعظم نعم الدنيا حيث تصبح شعوب المسلمين أمةً واحدة، فلا حدود تفصل بينها، ولا شعاراتٍ ظالمةً تكتوي بلهيبها؛ بل هي الشريعة الغرّاء التي تظلل الأمة بفيئها، وعليل هوائها ونسيم أسحارها.. قال رسولُ الله r : (إنما الإمام جُنّة، يُقاتَل مِنْ ورائه ويُتقّى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن أمر بغيره فإن عليه وزراً). رواه البخاري ومسلم
لكن.. ربما مرت على الأمة الإسلامية –بسبب ضعفها وتراجعها- أحوالٌ تفقد فيها الإمامَ والخليفة، فهل تتعطل الحياة نتيجةً لذلك ؟
قلتُ: ذكرنا من قبل أنه يجب علينا أن نمارسَ ديننا وإسلامنا، جهْد الطاقة وقدر الاستطاعة، حتى في غياب الخليفة؛ بل إن الجهادَ ذاته لا يتعطّل بغيابه. ([24])
(في حديث جابر بن سَمُرة t قال: قال رسولُ r : ( لن يبرح هذا الدين قائماً عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة). رواه مسلم
أليس (لن يبرح، ولا تزال) أفعالاً تفيد الاستمرار ؟ أي: استمرار القتال على الدين، وقد أشار رسولُ الله r إلى أنه سيأتي على المسلمين زمان لا يكون لهم فيه إمام، ومع ذلك فقد نصّ على استمرار القتال. ووجود الطائفة المجاهدة القائمة بأمر الله وهي باقية إلى نزول عيسى u، قال r: (لا تزال طائفة من أمتي بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس). متفق عليه
هل يُشترط وجود خليفة للمسلمين للقيام بالفرض الكفائي للجهاد ؟
والجواب: أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لم تُشرْ إلى مثل هذا الشرط.
* يقول صاحب الروضة الندية في حكم الجهاد: هذه فريضةٌ من فرائض الدين أوجبها اللهُ تعالى على عباده المسلمين من غير تقييدٍ بزمنٍ، أو مكانٍ، أو شخصٍ، أو عدلٍ، أو جَور..".([25])
·        وفي ذلك يقول الشيخ/ تقي الدين النبهاني أيضاً: الجهادُ فرضُ مطلق، ليس مقيداً بشيء، ولا مشروطاً بشيء، فالآية مطلقة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} البقرة: 216 ، فوجود الخليفة لا دَخْل له في فرض الجهاد؛ بل الجهاد فرضٌ سواءٌ كان هناك خليفة للمسلمين، أم لم يكن إلا أنه حين يكون للمسلمين خليفة قد انعقدت خلافته شرعاً، ولم يخرج عنها بأي سببٍ من أسباب الخروج –فإن أمْرَ الجهاد موكولٌ إلى الخليفة واجتهاده ما دام خليفةً حتى ولو كان فاجراً، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يرى من ذلك، ولو أمر أي واحدٍ منهم أن يغزو مع فاجر، لما روى أبو داود بإسناده إلى أبي هريرة t قال: قال رسولُ الله r : (الجهاد واجبٌ عليكم مع كل أميرٍ برّاً كان أو فاجراً) فإذا عُدم الخليفةُ لم يُؤخَّر الجهاد ولا بوجهٍ من الوجوه، لأن مصلحته تفوت بتأخيره"
·        أقول: وهذا الحكم هو الذي جاء في كتب الفقه الإسلامي.. يقول ابنُ قدامة في "المغني" : وأمرُ الجهاد موكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك.. – ثم يقول- ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات مَنْ لا يفي به مَنْ يليه فينقل -يعني الإمام- إليهم قوماً من آخرين، ويتقدم إلى من يؤمِّره أن لا يَحمل المسلمين على مهلكة، فإن عُدم الإمام لم يُؤخَّر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره([26]). ([27])
·        هل وجود خليفة للمسلمين شرط للقيام بالجهاد الذي هو فرض عين ؟
والجواب أن وجود الخليفة ليس شرطاً في القيام بالجهاد الذي هو فرض كفاية، فمن باب أوْلى، إذن، أن لا يكون شرطاً في القيام بالجهاد الذي هو فرض عين.
·        وأما كيف يتأدّى القيام بهذا الجهاد فإن الأمر فيه راجعٌ إلى أمر القتال المعيَّن من قبل السلطة العليا، أو المتفق عليه من قبل المقاتلين في حالة غياب الأمير المعين، فإذا تعذر هذا وذاك، وفجأ العدو أو تعيّن القتال وجب دفع العدو كيفما أمكن.
جاء في "المغني" (10/389-390): فإذا جاء العدو صار الجهادُ فرضَ عينٍ فوجب على الجميع.. فلم يُجَز لأحد التخلف عنه، فإذا ثبت هذا، فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير، لأن أمر الحرب موكولٌ إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوطُ للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج عليهم لتعيُّن الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح([28]) النبي r فصادفهم سلمةُ بنُ الأكوع خارجاً من المدينة، تبعهم فقاتلهم، من غير إذن، فمدحه النبي وقال: خيرُ رَجّالتنا سلمةُ بن الأكوع" رواه مسلم ([29])
·        فليس وجود الإمام شرطاً للقيام بفرض القتال للأعداء، وذلك أن آيات القرآن في شأن القتال جاءت مطلقةً غير مقيدة بمثل هذا الشرط، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} البقرة: 216 ، وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190، ثم قد ورد في السيرة النبوية أن أبا بصير([30]) قتل العامري، وأخذ السَّلب، وقد كان أبو بصير في حالته تلك، لا إمام عليه، إذ لم يكن تحت حكم رسول الله e بعد أن سلّمه عليه الصلاة والسلام لمبعوثيْ قريش، لأنه كما قال الإمام ابن القيم: كان قد فُصل عن يد الإمام وحكمه . ([31])
قال ابن قدامة في المغني (10/525) : معلقاً على قصة أبي بصير ما نصّه: فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً .. وَ([32]) يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الصُّلْحِ . وَإِنْ ضَمَّهُمْ الْإِمَامُ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْكُفَّارِ ، دَخَلُوا فِي الصُّلْحِ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ الْكُفَّارِ وَأَمْوَالُهُمْ.
ويستدل أيضاً بفعل الصحابة –رضوان الله عليهم- في غزوة مؤتة بعد مقتل الأمراء الثلاثة الذين أمّرهم النبي e، فاتفقوا على تأمير خالد بن الوليد، وقد رضي النبي e صنيعهم هذا.
روى البخاري بسنده عن أنس t قال: خطب رسولُ الله e فقال: " أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ عبدالله بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثم أَخَذهاَ خالد بن الوليد عن غير أمرة ففَتَحَ اللَّهُ عَلَيْه، وما يسرُّهم أنهم عندنا" قال أنس : وإن عينيه تذرفان حديث (3063). وفي رواية البخاري عن أنس : ( حتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) حديث (4363)
قال ابنُ حجر: -لما قُتل ابن رواحة- : "ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِت بْن أَقْرَمَ الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ : اِصْطَلِحُوا عَلَى رَجُل ، فَقَالُوا : أَنْتَ لَهَا ، قَالَ : لَا ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى خَالِد بْن الْوَلِيد " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي الْيُسْر الْأَنْصَارِيّ قَالَ : " أَنَا دَفَعْت الرَّايَةَ إِلَى ثَابِتِ بْن أَقْرَمَ لَمَّا أُصِيبَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة ، فَدَفَعَهَا إِلَى خَالِد بْن الْوَلِيد وَقَالَ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْقِتَالِ مِنِّي " . فتح الباري(7/512)
وقال ابن حجر أيضاً: وَفِيهِ جَوَازُ التَّأَمُّرِ فِي الْحَرْبِ بِغَيْرِ تَأْمِيرٍ ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هَذَا أَصْلٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا إِذَا غَابَ الْإِمَامُ يَقُومُ مَقَامَهُ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ. ([33])
وقال ابن حجر كذلك: قال اِبْن الْمُنِير : يُؤْخَذ مِنْ حَدِيث الْبَاب أَنَّ مَنْ يُعَيَّن لِوِلَايَةٍ وَتَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَة الْإِمَام أَنَّ الْوِلَايَة تَثْبُت لِذَلِكَ الْمُعَيَّن شَرْعًا وَتَجِب طَاعَته حُكْمًا . كَذَا قَالَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّه.. مَا إِذَا اِتَّفَقَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ . ([34])
وقال ابن قدامة الحنبلي: فَإِنْ عُدِمَ الْإِمَامُ ، لَمْ يُؤَخَّرْ الْجِهَادُ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ . وَإِنْ حَصَلَتْ غَنِيمَةٌ ، قَسَمَهَا أَهْلُهَا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ .قَالَ الْقَاضِي : وَيُؤَخَّرُ قِسْمَةُ الْإِمَاءِ حَتَّى يَظْهَرَ إمَامٌ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ .
فَإِنْ بَعَثَ الْإِمَامُ جَيْشًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ، فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ ، فَلِلْجَيْشِ أَنْ يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ ، لَمَّا قُتِلَ أُمَرَاؤُهُمْ الَّذِينَ أَمَّرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ e فَرَضِيَ أَمْرَهُمْ ، وَصَوَّبَ رَأْيَهُمْ ، وَسَمَّى خَالِدًا يَوْمَئِذٍ: سيف الله. ([35])
وهذا قول البخاري ( 6/180) "كتاب الجهاد- باب من تأمّر في الحرب بغير إمرة" وقول ابن حجر والطحّاوي وابن المنيّر وابن قدامة وشيخ الإسلام.
وهناك دليل آخر، وهو حديث عبادة بن الصامت t : دعانا النبي r فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعُسرنا ويُسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: ( إلا أن تروا كفراً بواحاً من الله فيه برهان) متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
فها هو الخليفة أو الإمام قد كَفَرَ وسقطت ولايته، ويجب الخروج عليه وقتاله وعزله ونصب إمام عادل، وهذا واجب بإجماع الفقهاء كما نقل ذلك النووي وابن حجر (صحيح مسلم-بشرح النووي) 12/229 وفتح الباري    ( 13/7-8-123) فهل نقول لا نخرج على الحاكم الكافر إذ لا إمام، ومن أين لنا الإمام وفد كَفَر ووجب الخروج عليه، أم ننتظر إماماً مغيَّباً ونترك المسلمين لفتنة الفساد والكفر ؟ أيقول بهذا مسلم ؟
إن الحديث السابق فيه تصريحٌ من النبي r بمقاتلة الإمام والخروج عليه إذا كَفَر، فنحن نسأل أصحاب هذه الشيهة كيف يقاتل المسلمون في هذه الحالة حيث لا إمام ؟ والرد الشرعي: أن يفعلوا كما فعل الصحابةُ في مؤتة فيؤمِّروا أحدَهم. ([36])
واستمرار القتال في حالة عدم وجود المسلمين تحت سلطة إمام يستوي فيه أن يكون القتال هجومياً أو دفاعياً؛ وذلك لأن قتالَ أبي بصير.. العامريَّ وقتلَه، كان دفاعياً لكي يتخلّص من قبضة عدوه. وقتاله مع رفاقه لأصحاب عير قريش، واغتنامهم لتلك العير كان هجومياً، وفي كل ذلك لم يكونوا تحت سلطة إمام، فقد كان أبو بصير -بادئ الأمر- أمير نفسه، ثم صار أمير تلك العُصبة القليلة المجاهدة التي أقضّت مضاجعَ قريش.([37])
قال القرطبي ما نصّه: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ..}النساء 84 ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو لوحده، ومن ذلك قول النبي r : (والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي)([38])، وقول أبي بكر t وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي"([39])
وعلى هذا سار المسلمون، فلم يَردْ أنهم كانوا يُوقفون القتال في الفترة التي كان يموت فيها الإمام إلى أن يتولى إمام غيره، وقد بقي المسلمون بعد مصرع آخر خليفة عباسي في بغداد على يد التتار، مدة طويلة ولا إمام عليهم، إنما بقي أمراءُ على الأقاليم، وظلّ القتال مع العدو ماضياً لم يتوقف. ([40])

عندما يكون الخليفة صورةً لا سيرة، ولفظاً لا معنى:
لقد مرّت على الأمة الإسلامية عصورٌ محزنة، تراجعت فيها عن أهم مقوماتها، وأسباب عزّتها، حيث استرخت داخلياً، واعتمدت على سعة رقعة أرضها وتجاهلت عوامل الصعود في تلك الفترات، مما أدى إلى أن ينال منها عدوها، ويستبيح حرماتها ويحتلّ أرضَها ويقتل شبابَها، ويهدم مساجدَها؛ بل لقد مات كثيرٌ من المسلمين فقراً وجوعاً، وكان الخلفاء في تلك الفترة دُمى تحركها شهواتٌ ونزوات، تخاذلوا عن نصرة إخوانهم الذين استغاثوا بهم، فردُّوهم على أعقابهم دون إعانة، فكانت النتيجة مُرّة، وكانت العاقبة حنظلية. (وتقدّم لنا المصادر الإسلامية صوراً مفصّلة مرعبة، من مواقف الحاكمين وجماعات المسلمين، وإيثارهم لأمورهم الخاصة على مواجهة الخطر الداهم..
من ذلك ما ذكره الإمامُ ابنُ الجوزي في تاريخه –المنتظم- وابنُ الأثير وغيرُهما حين احتل الصليبيون الرملةَ والقدس وعسقلان وفتكوا بأهلها، وقتلوا في ساحات الأقصى سبعين ألفاً تقريباً، من المجاورين() والعلماء والطلاب والعبّاد والزهّاد.
وعلى أثر هذه المذابح راح أهل الشام يستغيثون بالخلافة العبّاسية وأهالي الشرق.. ويصف ابنُ الأثير وابنُ كثير ذهاب الوفد والطريقة التي قوبل بها والنتيجة التي انتهى إليها فيقولان: وذهب الناسُ على وجوههم، هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، ومنهم وفدٌ يصحبه القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع، هالهم ذلك وتباكَوْا.
وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاءُ الناس وندب الخليفة الفقهاء على الخروج إلى البلاد، ليحرّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابنُ عُقيل وغيرُ واحد من أعيان الفقهاء، فساروا في الناس فلم يُفد شيئاً. ([41])
قلتُ: وما أشبه الليلةَ بالبارحة ! فها هي شعوب المسلمين في الأرض عضّها الجوع بنابه، بعدما فقدت المعيل النابه، وأصبحت نهباً للصليبيين والمغول الجدد، فنُهبت ثرواتُها، وقُتل شبابها، وما زالت أرضها محتلة وأوضاعها مختلة، وتبتلع دولُ الكفر أرضها شيئاً فشيئاًً منذ تسعينات القرن الماضي، حيث مجازر البوسنة والهرسك وكوسوفا، ثم كانت مأساة العراق وأفغانستان والصومال، وها هم يسعون إلى تطويق السودان، والمؤامرة مستمرة، وحكّام الأمة ساهون غافلون، ركنوا إلى الدعة والراحة واستمرؤوا() الذل والهوان، وتشتد المؤامرة على فلسطين الجريح، فما قيمة حكام بهذا المعنى ؟ وما قدرُ ملوك بهذا المدلول ؟ أين أموالكم يا عرب ؟ أين ثرواتكم يا مسلمون ؟ والمسلمون يُذبحون ويُقتلون !
( وتقدّم لنا المصادر الإسلامية صوراً أقبح.. من تقاعس الخلفاء والسلاطين أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبيين في القدس وسواحل سوريا ولبنان، فقد جمع أحد الوفود المستنجِدة كيساً كبيراً مليئاً بقَحفِ([42]) الجماجم، وشَعرِ النساء والأطفال، ونثرها بين يدي المسؤولين، فكان جواب الخليفة لوزيره: دعني.. أنا في شيءٍ أهمَّ من هذا ! حمامتي البَلْقاء([43])، لي ثلاثُ ليالٍ لم أرها.
فقد كان للخليفة حمامةٌ بلقاء اللون مدربة على الغلبة ونَقر الحمام، وهذه كانت لعبةً شائعةً بين الناس، وكان الخليفةً مولعاً بها، ويماثله الأغنياء الطبقات العالية.  ([44])
قلتُ: إن سلوكَ أولئك الحكام والسلاطين لا يختلف عما يحدث هذه الأيام، فتراهم يقيمون حفلات الرقص والغناء الماجنة ويستعرضون ملكات الجمال، وأُترفت حياتهم في الطعام والشراب، وضُيعت أموال الأمة في سياحة كذوب، ورياضةٍ صُرفت عن معناها ومدلولها، وما أشبه الخليفة -الذي أرقه غياب حمامته، التي كانت لها الغلبة في النقر، والفوز في العبث- !
ما أشبه سلوك هذا الخليفة بسباق الهُجُن، والدراجات والخيل والإبداع في الأغنية العربية ! والتسابق إلي عرض الأزياء، في الوقت ذاته يُهدد المسجد الأقصى بالهدم، وأرضُ فلسطين بالابتلاع، ويُهدد المشروع الإسلامي في فلسطين، وتشتد المؤامرة عليه، وفشا الجهل في الأمة، والأميةُ بين الشعوب، وهُدرت الأموال بغير وجه حق، وأصبحت الأمةُ رهينةً لسياسة دول الغرب، نتيجة لوجود حكام وسلاطين، وكثير من الإعلاميين والمثقفين، الذي سلّموا أزمةَ أمورهم لأعدائهم، فاعوجوا وما استقاموا، وتلوثوا وما تطهروا، وانحدروا ويوشك بعد قليل أن يندحروا، تتبعهم لعناتُ المظلومين، وشكاوى المكروبين، الذين منعهم أولئك حقَّهم في العيش بكرامة، والحياة بسعادة.
وما زالت المؤامرة مستمرة، وما زال الجهل السياسيّ والإداري، والاقتصادي والاجتماعي، يضرب بأطنابه([45]) في المجتمعات العربية والإسلامية، تُفتح الحدود والمطارات للمغنيين والمغنيات وفِرَق كرة القدم؛ بل تُفتح لأجهزة المخابرات العالمية، وتُغلق أمام المرضى، وطلاب العلم من المسلمين –دون وجه حق-؛ بل ضاقت بلادُ العرب والمسلمين بعدة عشرات من المسلمين المهجَّرين من العراق([46])، فاحتضنت بعضُ دول أمريكا اللاتينية كثيراً منهم؛ ليذوبوا هناك، وما زال كثيرٌ منهم عالقاً بين سوريا والعراق.
إن كنتم عرباً أيها الناس.. فليس هذا من شيمة العرب، فهل كانت تلك صفاتِ حاتم الطائي، أم كانت تلك نعوت العرب في الصحراء الذين كانوا يكرمون الضيف، ويضربون -مَنْ ظلمهم- بالسيف ؟
إن كنتم مسلمين .. فليس هذا من أوصاف المسلمين الذين جعلهم الله أمةً واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وأين أنتم من حديث النبي e : عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) البخاري ومسلم
لماذا.. لا يأخذ هذا الحديث حقه، في سلوكنا، وفي أعمالنا ؟ بل لماذا لا يصبح دوران حياتنا عليه؛  لنكون أمة تستحق الرحمة، فهذا خيرٌ من أن نكون مسلمين بلا عمل، أو عرباً بلا غضب.
ويذكر لنا التاريخُ أنموذجاً لخليفةٍ دار في فلك ذاته وأسرته وجماعته، وترك الأمة نهباً لأعدائها، وما حرّك جنده لحمايتها؛ بل جعلهم لحماية قصره، فلم يبق ملكه ولا قصره.
ليس هولاكو وحده!!
كتب الدكتور/ أحمد صبحي منصور هذا الفصل النفيس في النقد الذاتي للتاريخ الإسلامي ، ننقله عنه مقدرين للفكر الذكي الذي أملاه .
" من بين عشرات السفاحين الذين أهلكوا الحرث والنسل يتمتعهولاكو `بمكانة خاصة في تاريخنا الإسلامي والعربى , فهو السفاح الذي أطاح بالدولة العباسية , والذي قتل في بغداد سنة 656 هـ ما يقرب من   2مليون نسمةإنه سِجِل دموي يستحق عليه هولاكو - بلا شك - كراهيتنا واحتقارنا ، ولكن المسؤولية لا يتحملها هولاكو وحده ..!  ينبغي أن يُوجَّه اللوم أولاً.. إلى أمير المؤمنين المستعصم بالله العباسي  , الذي حمل أمانة المسلمين ففرط فيها , والذي مازال بعضنا يذرف الدموع حزناً عليه ,وعلى الخلافة العباسية التي تمثل حتى الآن حُلماً من  أحلام  اليقظة لدى بعض الناس في عصرنا([47])!! ...
وقد وصفه المؤرخ ابن طباطبا بقوله : ` كان مستضعفَ الرأي , ضعيفَ البطش , قليلَ الخبرة بالمملكة , مطموعاً فيه , وكان زمانه ينقضي في سماع الأغاني والتفرج على المساخر، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلهم جهال من أرذل العوام، وقد يقالإن المؤرخ ابن طباطبا كان شيعي المذهب , يتحامل على الخليفة المستعصم المشهور بتعصبه لأهل السنة , إلا أن مؤرخا سنياً موثوقاً به مثل ابن كثير.. يتفق مع ابن طباطبا في رأيه.. يقول عنه : ` كان محباً لجَمْع المال , ومن ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود المعظم , وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف  دينار , فاستقبح هذا من مثل الخليفةوأدى نهمُ الخليفة بالمال وحرصُه عليه إلى أن عرّض الخلافةَ للخطر حين هددها المغول , إذ إنه قطع عن الجنود أرزاقهم في وقت هو أحوج ما يكون إليهم فيهيقول ابن كثير إنه : صرف الجيوش , ومنع عنهم أرزاقهم حتى كانوا يتسوَّلون على أبواب المساجد وفي الأسواق ... وأنشد فيهم الشعراءُ قصائدَ يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، على أن شُحَّ الخليفة المستعصم بالأموال على الجند في وقت حاجته لهم.. يقابله في الناحية الأخرى إسرافُه الشديد في الإنفاق على خدمه وأتباعه من الظلمة الذين يأكلون أموال الناس , وكان أولئك الخدم من الجهّال وأراذل العامة والمماليك الذين صعد بهم الزمن الرديء.. عصرُ انحلال الدولة العباسية , فاحتكروا الثروة بينما عاش العلماء والأشراف يتضوّرون جوعاً .
ولنضربْ أمثلةً تاريخية على ما جرى في أواخر الدولة العباسية , حين أغدقت الأموال على الخدم فأصبحوا أعجوبة في الثراء , ومنهم :
  ا - علاء الدين الطبرسي الظاهري , كان دخله من أملاكه نحو 300 ألف دينار , وكانت له دار لم يكن ببغداد مثلها , وحين تزوج دفع صداقاً قدره 20 ألف دينار ..  ووهب له الخليفة المستنصر ليلة زفافه 100 ألف في ينار , وألحقه بأكابر الدولة , ومنحه ضيعة كانت تدرُّ له دخلاً يزيد على 200 ألف دينار سنوياً.
 -2 مجاهد الدويدار , قيل عن أملاكهإنها كانت مما يتعذر ضَبْطُه على الحساب ` ...  وفي ليلة زفافه حصل على هدايا من الجواهر والذهب ما يزيد على 300 ألف دينار وفي صباح زواجه أنعم عليه الخليفة المستعصم بـ  300ألف دينار , وكان إيراده السنوي من مزارعه وأملاكه أكثر من 500 ألف دينار.
 -3عبد الغنى بن فاخر , شيخ الفراشين في قصر الخلافة , كانت داره تشمل عدة حجرات , وفي كل حجرة جارية وخادمة وخادم , ثم رتب لكل جارية عملا , فواحدة لطعامه , وأخرى لشرابه , وأخرى لفراشه , وأخرى غسالة , وأخرى طباخة , ...  وفي المقابل كان أعظم العلماء وقتها لا يتقاضى أحدهم أكثر من 12 دينارا شهريا فحسبوذلك هو المرتب الذي كان يأخذه علماء المدرسة المستنصرية !!  وابن القوطي وابن الساعي أشهر مؤرخي ! هذا العصر كان كلاهما يأخذ راتباً شهرياً قدره عشرة دنانير !!  فأين أولئك من شيخ الفراشين في قصر الخليفة؟وفي ذلك الوضع المقلوب لابد أن تكتمل الصورة المَقيتة لأي إمبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتة التي ترفعها , سواء كانت إمبراطورية فارسية , أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية , لابد أن تتفشى الرشوة , وتكثر مصادرة الأموال , وتتفاقم الاضطرابات الداخلية , مع الانحلال الخُلُقي , والانشغال بالتوافه عن الخطر الذي يدق الأبوابيقول الغساني صاحب كتاب ` العسجد المسبوك ` , يصف السلطة العباسية في أواخر أيامها : `  واهتموا بالإقطاعات والمكاسب , وأهملوا النظر في المصالح الكلية , واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية , واشتد ظلم العمال - أي الحكام - , واشتغلوا بتحصيل الأموال والمُلْكُ.. قد يدوم مع الكفر ولكن لا يدوم مع الظلم.
` .  صدقت يا غسانى :  الملك قد يدوم مع الكفر لكن لا يدوم مع الظلم .. ` .  فالقاعدة الإلهية تقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء1، ولا يمكن أن يحل التدمير إلا إذا استشرى الظلم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }هود117
ولكنَّ أميرَ المؤمنين المستعصم العباسي لم يستوعب الدرس , ولم يعرف أن عقوبة الفساد مستمرة , وإن تنوعت أساليبها ..   وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفاً من ذلك قبل أن يقتله المغول رفساً بأقدامهم !!
يقول الهمذاني في كتابه (جامع التواريخ) : إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد , دخل قصرَ الخلافة , وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له : `  أنت مُضيف ونحن الضيوف، فهيا أحضر ما يليق بنا، فأحضر الخليفة وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس , فلم يلتفت إليها هولاكو , ومنحها  الحاضرين , وقال للخليفةإن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة , وهى ملك لعبيدنا , لكن.. اذكر ما تملكه من الدفائن، ما هي وأين توجد؟ ` .  فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب في ساحة القصر , فحفروا الأرض حتى وجدوه , كان مليئا بالذهب الأحمر , وكان كله سبائك , تزن الواحدة مائة مثقال  .
واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموي , إذ تعجب هولاكو , كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم؟ !!  ولم ينس هولاكو أن يذكر ذلك في منشوره الذي أرسله إلى حاكمِ دمشق , ينذره بالتسليم , ويخوفه من مصير الخليفة العباسي وما حدث لبغداد , ويقول فيه عن الخليفة المستعصم : `  واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب فواقعه الندم واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة فجمع المال ولم يعبأ بالرجال).
وقد أورد المقريزي خطاب هولاكو بالتفصيل: ونعود إلى الهمذاني وهو يروي ذلك اللقاء بين هولاكو والخليفة في قصر الخلافة فيقول :
 ` إن هولاكو أمر بإحصاء نساء الخليفة , فبلغن سبعمائة زوجة وسرية وألفَ خادمة !!  وتضرّع إليه الخليفة قائلاً : ` مُنَّ علي  بأهل حَرَمي اللائي لم تطلع عليهن الشمس والقمر .. `  يقول الهمذاني :  وقصارى القول.. إن كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون وضعه المغول بعضَه على بعض فكان كجبل على جبل ` .  وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التي ورثها هولاكو من الخليفة العباسي , فإنه صهرها جميعاً في سبائك وأقام لها قلعة محكمة في أذربيجان.
لقد كان هولاكو - ذلك الهمجي السفاح - يَعي تماماً أنه عقاب إلهي للخلافة العباسية والحكام الظلمة في المنطقة , وحرص على إبراز هذا المعنى في رسائله إلى الحكام , يقول في رسالته إلى حاكم دمشق : `  إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى , وقتلنا فرسانها , وهدمنا بنيانها , وأسرنا سكانها ..  ويقول في رسالته إلى السلطان قطز في مصر :
` ..  يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ..  أنا نحن جند الله في أرضه , خلقنا من سخطه , وسلطنا على من حل به غضبه ..  فإنكم ` أكلتم الحرام , ولا تعفّون عن كلام , وخنتم العهود والأَيمان , وفشا فيكم العقوق والعصيان , وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة , وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة ` .  وربما استفاد السلطان قطز من هذه الرسالة , فكفَّ المماليكَ عن الظلم , واستعاد شعوره الديني ..  وفي غمرة عين جالوت , حين أوشك جنوده على الفرار صرخوا إسلاماه ` وألقى بخَوْذته , ونزل إلى  المعركة بنفسه ..  فكان الانتصار ..  هكذا تقوم الدول وتنهار , وأساس الانهيار يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدّخلٌ خارجيٌّ ليعجِّل بالسقوط، ولكنْ.. يظل الانهيار الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر ..  ويأتي الانهيار الداخلي حين تتكون طبقة مترفة تتحكم في الثروة , وفي الجماهير , فتنشر الظلم والانحلال وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة , وتتضاءل فيه الفوارق بين الحياة والموتوالقرآن الكريم يضع العلاج في تشريعاته الاقتصادية التي تمنع تركز المال في يد فئة واحدةويأمر في الوقت نفسه بالزكاة والإنفاق في سبيل الله , بل يأتي الأمر أحيانا في صورة التهديد كقوله تعالى : {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195ومعناه.. أنه إذا لم يكن هناك إنفاق في سبيل الله فالتهلكة هي المقابل , وإذا كان هناك إنفاق في سبيل الله فلا مجال إذن لتركّز المال في طبقة قليلة العدد يتحول ثراؤها إلى ترف ..  ويقول تعالى مهددا المسلمين في عصر الرسول : `  {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38
  لقد أساء المستعصم في تعامله مع خدمِه وأتباعه , فأغدق عليهم في المناسبات بمئات الألوف من الدنانير، في وقت يتضور فيه العلماء والشرفاء جوعاً.. أبعد هذا ..نظل نلعن هولاكو وحده ؟ ([48])
قلتُ: ما قيمةُ خليفة بهذا المعنى الذي كان صورة ولم يكن سيرةً؛ بل كان شجراً بلا ثمر، فكانت النتيجة ما رأينا، وفُقد الخليفة، فماذا تفعل الأمة، أتترك جهادها وقتالها ؟ أتترك حمايةَ دينها وعقيدتها ؟ لو فعلت ذلك لداستها سنابك([49]) خيول المغول ؟  ولابتلعتها الجيوش الظالمة واستأصلت دينها وإسلامها، ولك أن تتصور لو ترك المماليك الجهادَ لأن الخليفة غائب لتم ابتلاع مصر، ولكُسرت شوكة المسلمين ولعاشوا في جاهليةٍ، لا يعلم نهايتها إلا الله، هذا إذا بقوا على قيد الحياة، فإن المغول كانوا استئصاليين، أرادوا اقتلاع الإسلام من الجذور والأصول، فماذا فعلت الأمة عندئذٍ.
قال الزيني دُحْلان: انقرضت الخلافة من بغداد بقَتلِ المستعصم، وبقيت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصف سنة، وكان دخول التتار بغداد وقتلهم الخليفة المستعصم في العشرين من المحرم سنة 656هـ ([50])
وقال أيضاً: في شهر رجب من هذه السنة -أعني سنة تسع وخمسين وستمائة- قدم شخصٌ إلى مصر من بني العباس.. فبايعه الملك السلطان بيبرس والعلماء والناس بالخلافة. ([51])
ورغم انعدام الإمام في هذه الفترة فقد خاض المسلمون معركةً هي من مفاخر المسلمين اليوم وهي معركة "عين جالوت" ضد التتار في عام 658 هـ، حدث هذا مع توافر أكابر العلماء-كعز الدين بن عبدالسلام وغيره- ولم يقل: أحدٌ كيف نجاهد وليس لنا خليفة ؟ بل.. إن قائد المسلمين في هذه المعركة "سيف الدين قطز" كان قد نَصَبَ نفسه بنفسه سلطاناً على مصر بعد أن عزل ابن أستاذه من السلطنة لكونه صبياً صغيراً، ورضي بذلك القضاة والعلماء وبايعوا قطزاً سلطاناً، وعدّ ابنُ كثير(البداية والنهاية 13/216)  فِعْلَ قطز هذا نعمةً من الله على المسلمين إذ – به- كسر الله شوكةَ التتار كما عدّ ابنُ تيمية هذه الطوائف التي قاتلت التتار في تلك الأزمنة من الطائفة المنصورة، فقال: أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهم، فهم في هذا الوقت المقاتلون على دين الإسلام وهم من أحق الناس في الدخول في الطائفة المنصورة . ([52])
الخلافة نقطة النهاية وليست نقطة البداية:
إن الصحوةَ الإسلامية، تبقى أمل الشعوب العربية والإسلامية، ولقد حملت هذه الصحوة المباركة همومَ الوطن العربي والإسلامي، وكان لها تأثيرٌ ملموس في حفْظ الأمة المسلمة، للأخذ بيدها إلى مجتمع إسلاميٍّ تحيا فيه وفق شريعتها.
وإن الصحوةَ الإسلامية-والحق يُقال- شاركت فيها شخصياتٌ وجماعاتٌ مختلفة- ولقد أنصف الأستاذ القرضاوي وهو يتحدث عن هذه القضية، فذكر شخصيات بأسمائها، ثم تحدث عن الجماعات فقال: .. ولا ننسى جماعاتٍ وحركات كان لها أثرها ومساهمتها في مجال الصحوة، على اختلاف اتجاهاتها، ومشاربها، بالإضافة إلى أم الجماعات وكبرى الحركات الإسلامية ..(حركة الإخوان المسلمين).
ومنها : جماعة الدعوة والتبليغ، التي تاب على أيدي أتباعها كثيرٌ من العصاة في بلاد العجم والغرب، وعرفوا الطريق إلى المسجد والصلاة والتوبة، بعد شرور المعصية، وشرود الغفلة.
ومنها: الحركة السلفية التي عنيت بتصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة وتحريرهما من الشركيات والخرافات، والدعوة إلى الاعتماد على الكتاب والسنة، لا على تقليد المذاهب أو اتّباع الطرق.
ومنها: الجمعية الشرعية التي كان لها دورها في إقامة السنة ومحاربة البدعة.
ومنها: جماعة الجهاد التي ربّت أتباعها على معاني القوة والصلابة، وقيم البذل والتضحية، والاستشهاد في سبيل الله.
ومنها: حزب التحرير الي وقف جهده على الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية.
وتأثير هذه الجماعات ليس متساوياً، كما أن لكل منها ما لها وما عليها من ناحية فكرها، وأهدافها، وأساليبها، ولكن ليس هذا مقام التقويم لها. ([53])
قلتُ: وهذا إنصافٌ يدل على سعة علم الشيخ، وحُسْن قصده وتقواه، ولا نزكّي على الله أحداً. ومن هنا.. وجب أن نوقّر علماءنا الذين كتبوا لعموم الأمة، والعجيب ممن يسيء إليهم، بغير علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير، وإذا كان الله عز وجل يستحي أن يعذب رجلاً شاب شيبةً في الإسلام، فإن منا من يؤذِي ويغتاب، ويَنقَصُ قدرَ من شبَّ في الإسلام وشاب ، وسخّر قلمه ولسانَه في خدمة هذا الدين العظيم.
(.. ولربما كان من المناسب أن أنقل القارئ إلى جيل ما قبل الإسلام لينظر معايير الأدب والإنصاف في الفضل. وأي فرق بيننا والآن وبينهم ؟
قال الإمام مالك: سُئل أوس بن خارجة، من سيّدكم ؟
فقال: حاتم الطائي. فقيل له: أين أنت منه ؟
قال: لا أصلح خادماً له.
وسُئل حاتم الطائي: من يسودكم ؟
قال: أوس بن خارجة، فقيل له: أين أنت منه ؟
قال : لا أصلح أن أكون مملوكاً له.
فكان مالك يقول: أين فقهاؤنا من هذا الأمر؟
والأمثلة في هذا كثيرة – وفيما ذكرته كفاية لنخلص إلى:-
- أن الإنصافَ سمةُ الصالحين الصادقين، وأن من الواجب أن يكون شائعاً بين العلماء، أما التجاحد في العلم، والإلحاد فيه، فمن الواجب أن يتركه العلماء وينزّهوا أنفسهم عنه.
- الإنصاف خُلُق يبعث عليه معرفة الإنسان بعَيبِ نفسه، وكمال غيره وفضله، وهو أمر يحتاج إلى هضم النفس ومقتها، وقمع الشهوة والحرص والهوى، وتلك من أصول الكمالات وعليها قيامها.
- أما الإجحاف والتجاحد، وهضم حقوق الناس، فموت للإنسان قبل غيره، ومضيعة للعلم قبل سواه، ودعوة للعامة والخاصة إلى الإعراض عنه، والزهد فيه.
- يتولد عن الإنصاف سلسلة من الكمالات والفضائل: الخضوع للحق، وقبوله ممن جاء به، معه الرضا والتسليم، وتركُ التحلّي والتشبّع بما لم يُعطَ وما ليس فيه، والتخلّي عما لا يحسنه، وتركُ الإعجاب بما يحسنه، والتنبيه على موضعه ما لم يكن مضطراً، فإن اضطُرّ إلى ذلك فلا يسعه إلا أن يعلن عن نفسه، ويظهر مكانته. ([54])
قلتُ: وانطلق الأستاذ القرضاوي من هذه المعاني والمفاهيم وهو يتحدث في قضايا الأمة؛ بل وهو يقدم نصحه للحركات الإسلامية العاملة، فقال في شأن الخلافة وأنها تمثل نقطة النهاية في رده على الإخوة الذين جعلوها كل شيءٍ في حياتهم: (... لكنا نخالفهم في (نقطة البداية) فإقامة الخلافة: لا يصلح أن تكون البداية في الإصلاح؛ بل هي نقطة النهاية، حين تصلح الأحوال في عدد من الأقطار الإسلامية، وينتصر دعاة الإسلام فيها على: العلمانيين والماركسيين وغيرهم، ويحتكم الناس إلى الشريعة الإسلامية، تسعى هذه الأقطار لإقامة اتحاد إسلامي فيما بينها، في صورة من الصور الواقعية، حتى ولو لم يُسمَّ بهذا الاسم، فالعبرة بالمسميات والمضامين لا بالأسماء والعناوين.) ([55])
اتساع أهداف المسلم وامتدادها:
إن المسلمَ له أهدافٌ محلية، وأهدافٌ إقليمية، وأهدافٌ دولية عالمية، فما ينبغي أن يطغى جانبٌ على جانب، فلا يُعقل أن يتحدث متحدث عن مشاكل العالم وينسى محيطه العربي والإسلامي، ولا يُعقل أيضاً أن يتحدث عن وضعه الداخلي وينسى تطلعاتِه وأهدافَه.. تجاه العالم الإسلامي والعالم كله.
وإن الخلافةَ التي بشّر بها النبيُّ e والتي سوف تبلغ ما بلغ الليل والنهار، هدفٌ لكل مسلم واعٍ، لكن هذا لا يمنع أن يُمارس المسلمُ إسلامَه في محيطه وما حوله ليكون جندياً من جنود الخلافة، لأن الخليفة لا ينزل من السماء إنما يخرج من الأرض، ولا بد للأمة أن تتهيأ لذلك وللمرحلة القادمة من دورة الإسلام وقيادته للدنيا، ولا يكون هذا إلا بإسلامٍ يُمارس سياسياً واقتصاديا واجتماعياً وأخلاقياً، أما إذا جعلنا كل هذا بيد الخليفة الذي امتد غيابه وطال انتظاره، فهو تخلٍّ منا عن دورنا تجاه ديننا، فإن الشعوب الإسلامية في حاجةٍ إلى ممارسة حياتها وفق دينها وإسلامها قَدرَ الاستطاعة: فهي في حاجة إلى مؤسسات تعليمية، وجمعيات خيرية، وإلي مَنْ يفصل بينها في خصوماتها، وهي في حاجةٍ إلى صدِّ عدوها عنها، حتى لا تُبتلع أرضُها،{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ..} البقرة233
ومن هنا.. لا تناقضَ بين هذه الأهداف المحلية والإقليمية والدولية.
( أن للدعوة أهدافا بعيدة مثل إقامة الدولة الإسلامية، وأهدافا قريبة مثل الإسهام الجزئي في إصلاح المجتمع، وهذه الأهداف لا تتعارض. مثل من يزرع النخيل والزيتون، فهو لا يثمر إلا بعد سنوات، ولكن الزارع الموفَّق هو الذي يستفيد من الأرض الفضاء بين الأشجار والنخيل بعضها وبعض، ليزرعها ببعض الخضروات السريعة النمو والنافعة، فيستفيد من أرضه، ويستفيد من جهده، ويستفيد من وقته، ولا يقعد عاطلاً ومعطِّلاً أرضَه حتى يثمر الزيتون أو يثمر النخيل بعد زمن طويل.) ([56])
هل يجوز وجود خليفتين في عصرٍ واحد:
ولقد حكم المسلمين خليفةٌ واحد في صدر الدعوة الإسلامية والقرون المباركة، ثم حدثت تراجعات وانقسامات عن المنهج القويم، ورغم ضعف الخلافة إلا أن سلاطين الأمة وحكامها وملوكها في الأمصار استمروا في الجهاد وتطبيق الشرع الحنيف.
ولقد ذكر النبي r خطورة البيعة لخليفتين فقال: (إنه سيكون هنّات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً مَنْ كان) رواه مسلم، (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). صحيح مسلم
لكنَّ علماءَنا ذكروا.. أن هذا الأمر منوطٌ بخليفتيْن أو حاكميْن في بلد واحد، أما إذا تباعدت البلاد، فللعلماء رأي آخر: لا يجوز العقدُ لإمامين في آنٍ واحد إلا إذا تباعدت المسافة بينهما، فإذا عُقد لإمامين فهي للأول منهما، ويجب على الثاني التنازل للأول، وعليه طاعته وإظهار الولاء له، يقول الشيخ الخضري: " أجمع المسلمون على أنه لا يَصلح أن يكون لهم في عصرٍ واحد خليفتان، لما يجرّه من التنافس، والتباغض اللذين هما سببُ الخسران والوبال" ([57])
والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمَخَالِف([58]) غير جائز وقد حصل الإجماع عليه.
أما إذا بَعُد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى([59]) فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع".([60])
وعلى هذا..لا يجوز أن ينُصّب إمامان في وقتٍ واحد ومكانٍ واحد، وبيعة الثاني في هذه الحال فاسدة، وطاعةُ الأول واجبة، فإن أصرَّ الثاني على البقاء في منصب الإمامة قوتل حتى يتنازل، ولو أدى ذلك إلى قتله. ([61])
وذكر الجويني أيضاً في (غياث الأمم  128) (جوّز بعضُ علماء أهل السنة نصب أكثر من إمام عند انعدام الاجتماع على إمام واحد من هؤلاء أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفرايني والإمام الجويني والكرّامية.([62])
قلتُ: يتضح مما سبق سعةُ الأُفُق عند علماء الأمة، وفقهاء المسلمين، وحرصُهم على أن يكون المسلمون مهيئين لخلافة كبرى وذلك بممارسة إسلامهم في واقع حياتهم والتفافهم حول علمائهم.
وإنني أنصح لإخوتي الشباب وبعض الجماعات أن ينوّعوا قراءتهم، وأن يأخذوا من كل عالِم وألا يتعصّبوا لآرائهم، فالعلم رحم بين أهله، لا يؤدي إلى بغضاء ولا إلى ضغينة، إنما إلى محبةٍ وأُلفة رغم الخلاف، وهذا دليلٌ على صفاء القلوب ونقاء الضمائر وقوة الأخوة الإسلامية، فليس عيباً أن تراجع ما تقوم به بين الحين والآخر، فالعلم واسع والمراجع كبرى، والإبداع لا ينقطع وللواقع أثرٌ كبيرٌ في الفتوى، وكما قال سفيان الثوري-رحمه الله- : ما ينبغي لمن جهل زمانه أن يُفتي.([63])
قلتُ: إن ما سبق ذكره يدفعنا إلى الحديث عن حزب التحرير الذي غالى في قضية الخلافة على حساب أمور كثيرة.
حزب التحرير:
حزب التحرير: متعصّب لكل ما قاله مؤسسه الفاضل الشيخ تقي الدين النبهاني –رحمه الله- ويكاد كل أعضاء الحزب: يحفظون كلماته عن ظهر قلب ويرددونها، كأنها (كليشهات) مطبوعة، أو نصوص معصومة.
المصطلحات التي ذكرها الشيخ يؤمنون بها، ويريدون أن يفرضوها على الناس مع أن علماءنا قرروا من قديم: أن لا مُشاحة في الاصطلاح([64])، فإذا قلتَ: من مبادئ الإسلام: العدل والإخاء والمساواة، قالوا: هذه ليست مبادئ، لا يوجد في الدنيا كلها إلا ثلاثة مبادئ: الإسلام، الشيوعية، الرأسمالية.
وإذا قلتَ: يقوم النظام الاجتماعي في الإسلام: على تكافل المجتمع، والتقريب بين أغنيائه وفقرائه، قالوا لك: النظام: ما يتعلّق بالأسرة فقط. هكذا قال الشيخ.
وهم يتقبلون ما قاله الشيخ: في النظام السياسي، أو النظام الاقتصادي، على أنه (دين الله)، لا على أنه اجتهاد بشر يصيب ويخطئ. ويقدمون لك دستوراً يجعل (الخليفة)، أو رئيس الدولة: أكبر دكتاتور في العالم!
وهم يعتبرون مشكلة المشكلات، وآفة الآفات، وكبيرة الكبائر: غياب الخلافة عن الحياة الإسلامية.
وأن حلّ كل المشكلات، وسدّ كل الثغرات، وعلاج كل الأدواء: إنما يتحقق إذا اخترنا شخصاً وسميناه: (الخليفة).
وكأنما تلخّص الإسلام كله: في الخلافة والخليفة، ولم يَعُد مهماً تحريرُ العقيدة من الشرك والخرافة، ولا تحرير العبادة من الابتداع والشكلية، ولا تحرير الأخلاق من الوهن والسلبية، ولا تحرير الأفكار من الغزو والتبعية، ولا تحرير الأسرة من التفكك، ولا تحرير المجتمعات من العصبيات الجاهلية، ولا تحرير الأمة كلها من لوثات الحضارة المادية، ورواسب عصور التخلّف الرجعية.
ليس هذا كلُّه مهماً، إنما المهم: أن تعلن قيامَ الخليفة، فيصلح في اليوم التالي كل فاسد، ويعود كل شارد، ويهتدي كل ضال، ويتوب كل عاص، وتنحل كل المشاكل !
وهم لا يحتجّون عليك بالقرآن، فليس معهم في هذه القضية قرآنٌ يُتلى، ولا يحتجون عليك بعمل الرسول e ، فهو لم يبدأ بالخلافة، ولا يستدلون عليك بصحيح البخاري، فليس معهم حديث في البخاري، ولكنْ.. كل ما يستدلون إليه ويعوّلون عليه: حديث واحد في صحيح مسلم: (مَنْ لقي اللهَ، وليس في عنقه بيعة لإمام، مات ميتة جاهلية).
ونحن نؤمن معهم بهذا الحديث، ونؤمن بضرورة الخلافة بوصفها: مجسِّدة للوحدة السياسة الإسلامية. ونرى المسلمين مقصرين وآثمين، ما لم يعملوا لإقامة الخلافة الموحٍّدة سياسياً لأمتهم.
لكنا نخالفهم في (نقطة البداية) فإقامة الخلافة: لا يصلح أن تكون البداية في الإصلاح؛ بل هي نقطة النهاية، حين تصلح الأحوال في عدد من الأقطار الإسلامية، وينتصر دعاة الإسلام فيها على: العلمانيين والماركسيين وغيرهم، ويحتكم الناس إلى الشريعة الإسلامية، تسعى هذه الأقطار لإقامة اتحاد إسلامي فيما بينها، في صورة من الصور الواقعية، حتى ولو لم يُسمَّ بهذا الاسم، فالعبرة بالمسميات والمضامين لا بالأسماء والعناوين.
أنا لا أريد أن أناقش حزبَ التحرير في أفكاره، فهو حرٌّ فيما يراه ويؤمن به ويدعو إليه، ولكني أريد منه: أن يمتحن هذه الأفكار، وأن يراجعها بين الحين والحين، وأن يضعها على مشرحة النقد والتحليل، وأن يخلع هالة القدسية والعصمة عن (أفكار الحزب) فهي ليست أكثر من (أفكار) وليست وحياً يوحى، وكل ما هو فكر، فإنما هو من جهد البشر، فهو قابل للصواب والخطأ، وقابل للمناقشة والنقد. ([65])
حوار لطيف بين الشيخ القرضاوي وعناصر من حزب التحرير في مدينة الخليل:
إن الشيخ القرضاوي ابنُ الحركة الإسلامية ومن الجيل الأول فيها، وقد أنعم الله عليه بنعمٍ كثيرة، فهو صاحبُ الفضل والمنّة، وقد كُلّف من المرشد –رحمه الله- بجولةٍ في بلاد الشام، فزار الضفةَ الغربية، وزار مدينة الخليل وكان له فيها حوارٌ ممتع مع الأخوة في حزب التحرير، يقول الشيخ:
( ..وقد بقيت عدة أيام في الخليل كانت من أكثر الأيام فائدة وبركة، وقد ألقيت أكثر من محاضرة بها، وكان أهم ما وقع لي هو النقاش الحاد مع جماعة (حزب التحرير) وقد كان في بداية نشأته، وفي نشاطٍ وتحرّكٍ مستمر، وكان الإخوان في حالة ضعف وخمول، وكان التحريريون في الخليل نشيطين جداً، وكان لهم جملة أفكار جديدة شغلوا بها الإخوان، وكانوا مدربين على الجدل فيها، ولم يكن لدى الإخوان دربة على الجدل في مثلها.
ولقد لقيت عددا من التحريريين، وجادلتهم في هذه القضايا، مثل قولهم: إن الدعوة التي لا تنتصر بعد ثلاثة وعشرين عاما ـ وبعضهم يقول: ثلاثة عشرة عاما ـ لا بد أن تكون على خطأ، وعليها أن تغير طريقها.
قلت لهم:  ما دليلكم على دعواكم؟
قالوا: السيرة النبوية.
قلت: ليس في السيرة دليل على أن هذا أمر لازم، فقد يتحقق الهدف بعد زمن أقل أو أكثر، وفقاً للظروف والإمكانات، ووجود العوائق أو عدمها.
ثم قلت لهم: ما قولكم في سيدنا نوح؟
قالوا: رسول من أولي العزم من الرسل.
قلت لهم: كم بقي يبلغ دعوته؟
قالوا: ألف سنة إلا خمسين عاماً.
قلت: هل حقق هدفه من دعوته؟ فسكتوا.
قلت لهم: أنا أجيبكم من القرآن نفسه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً } نوح7 ، وقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }هود40
..حتى إن امرأة نوح لم تؤمن به، و ابنُه من صُلبه لم يؤمن به، كما صرح بذلك القرآن.([66])  هل كان نوح مخطئا في طريقته؟ هل قصر في تبليغ دعوته؟ كلا. إنه دعا وبلغ وأدى ما عليه، وهو إنما عليه الدعوة، وعلى الله الهداية، عليه البلاغ، وعلى الله الحساب، عليه أن يَبذر الحَبَّ، ويرجو الثمر من الرب، وهذا هو عمل الداعية.
وهنا صمت التحريريون، ولم يجدوا جواباً.
وقضية أخرى أثاروها ضد الإخوان، وهي أنهم يشغلون أنفسهم بأعمال هي من صميم أعمال الدولة الإسلامية، مثل الأعمال الخيرية والاجتماعية، من مثل إنشاء المستوصفات والمستشفيات، ودور الأيتام، وأقسام البر والخدمة الإجتماعية، وهذا تخدير للناس عن المطالبة بإقامة الدولة وتنصيب الخليفة، وشَغل للناس بالعمل الخيري عن الدعوة ونشرها.
وكان جوابي عن هذه النقطة يتمثل في عدة أمور:
أولا:  إن فعلَ الخير واجب ٌ من واجبات المسلم، وشُعبةٌ من شُعبِ وظيفته، فهو مأمور بفعل الخير، كما أنه مأمور بالعبادة والجهاد، كما قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.) الحج: 77)
ثانيا:  إن الفقهاء قد أجمعوا على أن إزالة الضرر عن المسلم، من جوع وعُريٍ ومرض وغير ذلك؛ فرضُ كفاية على الأمة المسلمة، فإذا أهملت الأمة كلها هذه الفريضة الكفائية أثمت جميعا، وفي الحديث كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: ( فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ و أطعموا الجائع وعودوا المريض  ([67])" وفي الحديث الآخر: " ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع" .([68])
ثالثا: أن نشر الدعوة ليس بالكلام وحده، ولا بمجرد تأليف الكتب والرسائل؛ بل يدخل في ذلك الوسائل العملية، التي تحبب الإسلام ودعاتَه إلى الناس، وهذا ما يستعمله دعاة التنصير، من بناء المستشفيات والمدارس ودور الأيتام والأندية وغيرها، مما يتخذونه وسيلة لكَسبِ قلوب الناس، وضمهم إلى عقيدتهم بعد ذلك.
هذا خلاصة ما رددت به على الإخوة التحريريين الذين جادلوني، وكان منهم الأستاذ /أسعد بيوض التميمي خطيب المسجد الأقصى، والذي تخلّى عن حزب التحرير بعد ذلك. بالطبع.. لم يكن ردي بهذه الألفاظ ولكنها الأفكار الأساسية التي رددت بها عليهم، وكانت حجتي قوية بفضل الله تعالى وتوفيقه، لهذا لم يجدوا ما يقولونه إزاءها.
وانتعش الإخوان في الخليل واستبشروا، وعلّق الأخ فوزي النتشة على هذا النقاش العاصف بقول الشاعر:
إذا جاء موسى وألقى العصا                          فقد بطل السحر والساحر! ([69])

زيارة الشيخ النبهاني للشيخ القرضاوي:
ولقد كان الشيخ النبهاني –رحمه الله- ذا قلبٍ كبير فلم يمنعه ذلك من زيارة الشيخ وهو في أحد مشافي الأردن، رغم أنه علم بما جرى من حوار بين القرضاوي وعناصر الحزب، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه العلماء المخلصون حيث إنهم جميعاً مستهدفون من أعداء الأمة، فهم الذين يوجّهونها إلى شاطئ الأمان بعيداً عن أمواج هادرة من الأفكار والمبادئ يمكن أن تبتلعهم فتدمر دينهم وحضارتهم.
يقول الشيخ:
(..بقيت في مستشفى الدكتور ملحس، حتى أبللت([70]) من مرضي، وقد عادني في المستشفي كثيرون، ولكن أهم من زارني شيخ يلبس جبة وعمامة، أقرب ما تكون إلى عمامة المشايخ المصريين، سألني عن رحلاتي إلى مدن الضفة الغربية والشرقية، وأجبته بأنها كانت طيبة ومفيدة، وأعتقد أنها أفادتني شخصياً، وقديماً قالوا  السفر نصف العلم، وأسمعته بعض ما أحفظ في فوائد السفر من الشعر، وتناقشنا مناقشات خفيفة في بعض المسائل العلمية، بما يليق بإنسان على فراش المرض، وفي نهاية الزيارة صافحني الشيخ حفظه الله ولا أذكر هل أنا الذي سألته عن اسمه أو هو الذي بادرني، وقال:  الداعي تقي الدين النبهاني، ورحبت به وشكرته على اهتمامه وزيارته، واعتبرت ذلك فضلاً منه، ولعل رجاله رفعوا إليه تقريراً عن هذا الشاب المصري الأزهري الذي غالبهم في مجادلاتهم، فأراد أن يتعرّف على شخصي باللقاء المباشر، ولعلها مجرد مجاملة منه، وهي مشكورة على كل حال، وكانت هي المرة الوحيدة التي لقيت فيها الشيخ النبهاني، ولم يتح لي لقاؤه بعد.
وبعد ذلك خرجت من المستشفي مستعداً للعودة إلى مصر، ولم يكن أمامي إلا السفر بالطائرة، وكانت أول مرة أركب فيها الطائرة، وودعني إخواني وودعتهم، واستودعتهم الله الذي لا تضيع ودائعه، كما دعَوْا لي أن يزودني الله التقوى، ويهوّن عليَّ السفر، ويصحبني في الحِل والترحال.([71])
خاتمة:
يتضّح مما سبق أن الحركة الإسلامية فهمت مقاصد الشريعة وطريقة العودة إلى الحكم الإسلامي الرشيد، فمارست الإسلام بحُسْن فهْمٍ وجمال وعي وجلال فكر، وأدركت من حُسْن دراستها؛ بل من فقه علمائها أن العودة إلى الخلافة تسبقها خطواتٌ وخطوات، وما ينبغي أن تتعطل الحياةُ حتى يأتي الخليفة؛ بل لابد أن نمارس إسلامنا وديننا وخدماتنا الاجتماعية لإعانة الأمة ومساعدتها.
ولقد أدرك عدوّنا ذلك فرأينا حملةً ضد المؤسسات الإسلامية التي تديرها الحركة الإسلامية، فترعى فيها الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين، وأصبحت محطَّ أنظار الأمة، وموضعَ أماناتهم، فجعلت هذه المشاريع والأعمال الاجتماعية محبة للإسلام والمسلمين في قلوب الجماهير، حتى سمّاها اليهود: (الذراعَ الاجتماعية) لحركة حماس، وهذا شرفٌ يُضاف إلى الذراع العسكرية لنفس الحركة، التي تقاتل على أكثر من صعيد وتفهم قولَ النبي e في الحديث الذي يرويه والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسولُ الله e: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر).
ولقد افترس الجوعُ كثيراً من أبناء الأمة في كثيرٍ من بقاع الأرض، فهل ننتظر الخليفة حتى نطعمهم ؟ ومن الجوع ينقذهم ؟ أم نفعّل دور الأغنياء ودورَ عموم الأمة بالصدقات، ولو بجُهْد المُقِلّ، خاصةً.. بعد أن تخلّى كثيرٌ من الحكّام والملوك والسلاطين عن دورهم ؟
إن إنقاذَ الأمة من عَضِّ الجوع وشراسة المحتل وخطورة التنصير واحتلال الأرض لا يحتمل التأخير؛ بل.. إن العلماء قدموا ما سبق على حج الفريضة فكيف بحج النافلة !! وكيف باللهو واللعب وإضاعة الأموال فيما لا ينفع ولا يفيد ؟ وكيف بحِلق العلم والمواعظ التي خلت من الحديث عن هموم الأمة ومشاكلها وقضاياها ؟
وأذكر أثناء قيامي بتأسيس مشفى تل السلطان أواخر عام 1999م وبداية عام 2000م، قال لي أحدُهم: إن عملك هذا فيه خدمةٌ للسلطان وتوفيرٌ عليه، قلتُ: كان ينبغي لك أن تقول: فيه إعادة لدور إمام المسجد وأهمية العمل الاجتماعي، وإن كان البناء خطأً، فأرجو أن لا تزوروه وأنتم مرضى، وأن لا تسعَوْا إلى العمل فيه.
وقلتُ يومها: وإن المسجد أيضاً يجب أن تبنيه وزارة الأوقاف، وإن الفقراء والمساكين مسؤولية الشؤون الاجتماعية !! إن صحّ هذا.. فلا صدقة جارية ولا زكاة أموال، ولا لقماً في الأفواه الجائعة حتى يصبح للأمة سُلطان كبير هو الخليفة الأعظم ..!
إنني أدعو الأمة جميعاً بشتّى أحزابها الإسلامية وجماعاتها الإيمانية وشخصياتها القيادية أن تزيد من الأعمال الاجتماعية ومن غَرْسِ حُبِّ الجهاد في نفوس الشباب، وإنكار المنكر على الظالمين المفترين، الذين يعوّقون كلَّ بناء وتعمير، وتغييرٍ وإصلاح.
وإذا كان الناس قد تعوّدوا أن يستقبلوا حبيباً بعد غيابٍ طويل بالورود والأزهار والشعارات واللافتات وبمكانٍ وثير ينزله ليستريحَ من عناء السفر ووعثاء الطريق، إضافةً إلى تقديم ما لذّ وطاب من طعام وشراب، فأوْلى بنا أن نستقبل الخليفةَ القادم والمهديَّ المنتظر بالتزامنا بشريعتنا وتمسكنا وبإسلامنا وممارستنا له حتى يصلحَ أن نكون جنوداً له في خدمة هذا الدين، وكم من خليفة عظيم عبر التاريخ لم يستطع أن يتقدّم نتيجةً للخلل في القاعدة وتعليق كلِّ تغيير بالخليفة الكبير، فالذي جعل أبا بكر وعمرَ عظيمين أنهما كان في بيئةٍ عُظمى، وكانا وليّين على صفوة الأمة من الصحابة والتابعين، وما قصّر عثمانُ ولا عليٌّ وكلاهما مبشرٌ بالجنة ومن الخلفاء الراشدين، لكنْ..حدثت المؤامرة والتغيّر في القاعدة.
ومن هنا.. وجب علينا أن ننشئ قاعدةً إسلامية وأن نجعل الإسلام يمتدّ أُفُقياً في شتى المستويات، ومختلف المجالات، خاصةً أن كثيراً من المسلمين التبستْ عليهم المفاهيم، فمارسوا المعاصي على أنها طاعات، وفعلوا الآثام وظنوها قُرُباتٍ، واختلط عندهم مفهومُ الولاء والبراء، ورفض كثيرٌ منهم التحاكمَ إلى شريعة السماء؛ بل ترى بعضَهم يصلّي ويصوم وربما اعتمر وحج، في الوقت ذاته.. يضيق ذرعاً بتقدّم الإسلاميين وفوز المؤمنين.
وإذا كان الطبيب يُشكر إذا أحسن تشخيصَ المرض العُضوي لدى إنسانٍ ما، ويُشكر أكثر عند وصف الدواء، وربما قُدِّمت له الهدايا إذا برأ المريض، فما أجدر أن  يكون الداعية مشخِّصاً لأمراض الأمة وعِللها، بكل جرأةٍ وشجاعة، حتى وإن غضبت بعضُ العناصر، ثم يكون وصفُ الدواء الذي يتعقب الداءَ في الجسم فيقضي عليه.
فلنصرخ في الأمة ونقول: لا يلتقي الإسلامُ والظلم، ولا الإيمان والبخل ..
لا يجتمع في قلب عبدٍ مؤمن ولاءٌ لله ورسوله والمؤمنين.. وولاءٌ لأعدائه الذين يكيدون للإسلام ليل نهار..
لا يجتمع في قلب عبدٍ مؤمن إسلامٌ وكَذبٌ، وإيمان وافتراء، ولا تجتمع تقوى وخداعٌ ..واحتيال.. واحتكارٌ لضرورات الأمة واحتقارٌ لها..
 لعلَّ هذه الصراحةَ، وتلك الصرخة تحدث هزّةً في نفوس كثيرين، فيلحقون بالركب الإيماني قبل فوات الأوان..    {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} سورة ص88

زوروا موقع المسجد على الانترنت: www.belalmo.blogspot.com
نظِير خَليل اللوقة-إمَام مسجد بِلاَل بن رباح - رفح- تل السلطان– 16/رجب 1429 هـ- 19/7/2008م














المراجع
ابن القرية والكُتّاب-ملامح سيرة ومسيرة: د. يوسف القرضاوي. دار الشروق –ط1-2002م
الإسلامية من المراهقة إلى الرشد: د. يوسف القرضاوي. دار ط1-2002م القيادة الجندية في الإسلام (الجزء الأول-القيادة): د. محمد السيد الوكيل. دار الوفاء – ط3- الصحوة
الرقاق: محمد أحمد الراشد، مؤسسة الرسالة. ط 8 - 1984م.
أين الخلل: الدكتور يوسف القرضاوي. دار الصحوة للنشر -ط1. 1985م 
الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي: الدكتور يوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر- القاهرة 1993م
فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام: الشيخ أبو الفتاح على بن حاج، الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
1988م.
تراثنا الفكري بين ميزان الشرع والعقل: محمد الغزالي. المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط1 – 1991م .
مبشرات النصر والتمكين: الدكتور سيد بن حسين العفاني. مكتبة معاذ بن جبل. ط 1 . 2000م
هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس: الدكتور ماجد عرسان الكلاني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي 1995م
ضوابط الاختلاف في ميزان السنة: الدكتور عبدالله شعبان، دار الحديث-القاهرة. الطبعة الأولى 1997م.
جرعات جديدة من الحقِّ المُر(الجزء الخامس): محمد الغزالي ، دار نهضة مصر، 1996م.
وعرفت الإخوان: الدكتور/ محمود جامع، دار التوزيع والنشر-القاهرة، ط1، 2003م
تذكير النفس بحديث القدس (وا قدساه) -الجزء الرابع-: الدكتور/ سيد بن حسين العفاني، مكتبة معاذ بن جبل، ط1، 2001م
ترطيب الأفواه بذكر من يظلهم الله: الدكتور/ سيد بن حسين العفاني، مكتبة معاذ بن جبل، ط1، 1999م.
المقاطعة فريضة وضرورة: الشيخ/ محمد السيد الشناوي. مركز الإعلام العربي، ط2، 2006م
الجهاد والقتال في السياسة الشرعية: د. محمد خير هيكل، دار البيارق.
ملحمة البوسنة والهرسك-الجريمة الكبرى: الدكتور عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي. ط2 – 1993م.






الفهرس
مقـدمــة
الخلافة أمل المسلمين
أهمية الإمام العادل
كيف يأتي الخليفة
العمل الاجتماعي وأثره في حماية الأمة في غياب الخليفة
هل غياب الخليفة يمنع الجهاد في سبيل الله
هل يشترط وجود خليفة للمسلمين بالفرض الكفائي للجهاد
عندما يكون الخليفة صورة لا سيرة ولفظاً ولا معنى
ليس هولاكو وحده !!
الخلافة نقطة النهاية وليست نقطة البداية
اتساع أهداف المسلم وامتدادها
هل يجوز وجود خليفتين في عصر واحد
حوار لطيف بين الشيخ القرضاوي وعناصر من حزب التحرير في الخليل
زيارة الشيخ النبهاني للشيخ القرضاوي
خاتـمة





([1]) جرعات جديدة من الحقِّ المُر: محمد الغزالي، ص4 ، 5
([2]) وعرفت الإخوان: د. محمود جامع ص165
([3]) الخلّيون: الفارغون.
([4]) الرقائق: محمد أحمد الراشد  ص172-173
([5]) مبشرات النصر والتمكين: د. سيد العفّاني.  المقدمة ص8-9 .
([6]) ملحمة البوسنة والهرسك-الجريمة الكبرى: الدكتور عدنان النحوي ص61 وما بعدها.
([7]) وعرفت الأخوان: د.محمود جامع 13-14.
([8]) لماذا اغتيل الإمام حسن البنا: عبد المتعال الجبري، ص200.
([9])أين الخلل: د. يوسف القرضاوي ص38-39
([10])المقاطعة فريضة وضرورة: الشيخ محمد السيد الشناوي ص150
([11]) سراة: سراة كل شيء أي أعلاه.
([12]) من يظلهم الله: سيد العفاني 1/93
([13]) قطان: جمع قاطن وهو المقيم.
([14]) الحجى: العقل والفطنة، والجمع : أحجاء.
([15]) فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكّام: علي بن حاج ص252.
([16]) أشغر: خلا، يقال: شغرت الأرض أي خلت من الناس.
([17]) عسر: العسر هو: الضيق والشدة والصعوبة.
([18]) استبد: انفرد بالأمر دون غيره.
([19]) صقع: بلد.
([20]) غياث الأمم: الإمام الجويني ص282.
([21]) فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام: الشيخ على بن حاج ص252.
([22]) أين الخلل: د. يوسف القرضاوي ص85-86
([23])ابن القرية والكتاب: د. يوسف القرضاوي ص474
([24]) وهناك نُقول أخرى مجموعة في بحث "صنيع أهل الإسلام إذا غاب الإمام.. خلاصة القول أنه لا يجوز الاعتذار بعدم وجود الإمام للقعود عن فريضة الجهاد بل على المسلمين أن يختاروا من يصلح لهذه المهمة ولو كانت فيه بعض الذنوب كما نصَّ أحمد بنُ حنبل وغيرُه. انظر (فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام ص252).
([25]) الروضة الندية لصديق حسن خان 2/480
([26]) المغني لابن قدامة 10/373-374.
([27]) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية: د. محمد خير هيكل 2/871-872 دار البيارق.
([28]) لقاح: الجمال والإبل.
([29]) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/889
([30]) أبو بصير: هو الذي أُعيد إلى المشركين- وقد أسلم- وفق بنود صُلح الحديبية، فقتل العامري الذي أخذه ليعيده إلى المشركين.
([31]) زاد المعاد لابن القيم 3/309.
([32]) الواو للاستئناف.
([33]) فتح الباري (7/512-513).
([34]) فتح الباري 6/180.
([35]) المغني 10/374.
([36]) واقدساه:  35- 38
([37]) الجهاد والقتال 1/250-251
([38]) السالفة: صفحة العنق، والعنق والرقبة كناية عن الذات، والمراد: حتى ولو انفردت في القتال وحدي، وللعبارة معنى آخر غير مرادها هنا، وهو كناية عن الموت.
([39]) تفسير القرطبي 5/293
([40]) وا قدساه: سيد بن حسين العفاني 4/  35-  39
([41]) هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس: د. ماجد عرسان الكيلاني. ص94
([42]) قحف: عظام الرأس والرقبة.
([43]) بلقاء: خيل بلق: معلمة النواصى والأذناب.
([44])  المرجع السابق ص97
([45]) أطناب: جمع طَنْب: وهو حبل الخِباء والسُّرادق ونحوهما.
([46]) إلا السودان فقد آوت حكومته كثيراً من الفلسطينيين المهجَّرين من العراق.
([47]) سوف تتحقق الخلافة، بإذن الله، عندما نأخذ بأسبابها ونجتمع على كلمة الحق، فقد وعدنا الله ورسوله e بذلك.
([48]) تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: محمد الغزالي 108-114.
([49]) سنابك: حوافر الخيل.
([50]) الفتوحات الإسلامية: أحمد بن زيني دُحْلان 2/62.
([51]) المصدر السابق2/70 وانظر البداية والنهاية 13/231.
([52]) مجموع الفتاوى 28/531.
([53]) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي: د. يوسف القرضاوي 37-38.
([54]) ضوابط الاختلاف في ميزان السنة: د/ عبدالله شعبان 148-149
([55]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد ص196
([56])ابن القرية والكتاب: ص474
([57])القيادة والجندية في الإسلام ص31 نقلاً عن : إتمام الوفاء.
([58])
([59]) شسوع النوى : أي تباعدت المسافات بين البلدان
([60])الإرشاد ص425
([61])القيادة والجندية في الإسلام 1/32
([62]) فصل الكلام : على بن حاج ص252
([63])
([64]) لا مشاحة في الاصطلاح: أي فقد يسمي العلماء الشيء الواحد بأسماء متعددة.
([65]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد: د. يوسف القرضاوي ص194- 196
([66]) التحريم10 وسورة هود: 46.
([67]) رواه الشيخان.
([68])رواه اصحاب السنن عن ابى هريرة.
([69])ابن القرية والكتاب-ملامح سيرة ومسيرة: د. يوسف القرضاوي 472-475
([70])
([71]) ابن القرية والكتاب (مرجع سابق) ص478-479
Abu Umar

Abu Umar

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.